من أكبر آفات التخطيط والطموحات المستقبلية، هاجس "الضمان" الذي تسلل إلى نفسيات المتعايشين به. فتجدهم ويضعون القواعد للمستقبل ويتكلمون بنبرة ليست لمنظمين متفائلين مستعدين، بل لضامنين واثقين من حساباتهم وأرقامهم!
ومع أن الله تعالى قرر: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، لكننا بهواجس المستقبل المحمومة نقول لله إننا ندري ماذا نكسب غدًا! ونضمن أننا سنعيش حتى ننهي الخطط الخمسية والعشرية، وننفق ما أمضينا أعمارنا في ادخاره وتكديسه، ونثق أن العمر سيمتد بنا حتى نؤدي قائمة الأولويات المؤجلة، ونعتقد أرواحنا لن تشيخ وهي تنتظر التحرر من أغلال القوالب السائدة والواجبات التي لم يكلف الله بها عباده، بل ابتدعوها من عند أنفسهم وليتهم ابتغوا بها رضاء الله!
فمن دوّامة الدراسة إلى العمل إلى الزواج إلى الأبناء، ثم الحلقة المفرغة من المدارس الدولية، والخروجات العالمية، والإعداد الأسطوري لنوابغ الزمان شهرزاد وشهريار! ليعود الأبناء فيكرروا آثار آبائهم، وتفنى أعمار الساعين في جمع ما لا ينفقون لينفق من لا يشهدون!
إننا نتعامل كأننا بالتخطيط "نصنع" أقدارنا حقيقة. ونخشى أن نخطو أي خطوة نحو مستقبل "مجهول" أي بغير ضمانات محسوبة، مع أن كل مستقبل هو في الحقيقة مجهول مهما حسبنا حساباتنا، لأنه ليس ثمة ضمانات على الحقيقة مهما توهّمنا ذلك. الضمان الوحيد هو ما وعد الله به من #الحياة الطيبة للمتوكل الحق وعاقبة الخير للمؤمن الحق. وغاية ما في التخطيط كما سلف هو "التعبد" لله وليس "التأمّر" أو "التشرّط" عليه، جل وعلا .
إننا نتعامل كأننا بالتخطيط "نصنع" أقدارنا حقيقة. ونخشى أن نخطو أي خطوة نحو مستقبل "مجهول" أي بغير ضمانات محسوبة، مع أن كل مستقبل هو في الحقيقة مجهول مهما حسبنا حساباتنا
وقد نبهنا المصطفى صلى الله عليه وسلم للفارق بين استبشار العامل بعواقب سعيه وهواجس الضمان، بمعيار "المقاربة والسداد". فالله تعالى لم يتعبّدنا بضمان المستقبل أو نجاح الخطط، وإنما بصدق التوجه وإتقان الحاضر . قال صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تُحصوا، وإنما سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّهُ لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُهُ"، "قالوا: "ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟!"، "قالَ "ولا أَنا إلَّا أن يتغمَّدَنيَ اللَّهُ منهُ برحمةٍ ".
ومفهوم الوصية النبوية أنه لن يستطيع أحد تحمل أمانة الوجود وأدائها بحوله وقوّته وحده (لن تُحصُوا) وإنما بعون الله تعالى. ولن يبلغ أحد أداء حقه تعالى على كل حال، فلذلك غاية الأمر السداد أي لزوم المرجعية الربانية والنبوية، والمقاربة أي التوسط بين التشديد على النفس حتى ينفّرها التعنّت أو التساهل معها حتى يفسدها الدلال؛ "وأبشروا" برحمة الله تعالى وفضله، فليست العبرة بمن استكثر وغرق في دوامات الأشغال، وإنما بمن صدق وأخلص ما استطاع ليصفو سعيه لله.
يقول الله تعالى في سورة يوسف حين نجح في ضم أخيه بنيامين إليه: {كذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليم} [يوسف: 14] ففي حسن تدبير الله لنا ما يغنينا عن كل الهواجس والقلق. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]، فلا منتهى لبره وإحسان تدبيره لعباده تعالى، لمن توكل عليه بقلب موقن.
ولعلك تحسب الخير في أمر فتقدم عليه، ثم لا تأتي النتائج على ما تحب وترضى، أو تحجم عن آخر ثم يبدو لك من النتائج ما يجعلك تحسب أن خيرا فاتك. كل هذه الهواجس لا تطوف بقلب المؤمن الحق، لأن التوكل في حقيقته هو ميثاق عهد بإخلاص العبد في السعي واجتهاده في المقاربة والتسديد، والثقة المطلقة من بعد في التدبير الإلهي واللطف الرباني، مهما تكن النتائج، وإن خفيت الحكمة عنّا حتى حين.
غاية التخطيط ومراده هو التعبد لله بمفهوم "الإعداد" الذي أمرنا به، كما نتعبد بسائر الأفعال والعبادات، لأن الحرص على الإعداد من علامات الجدية في تحمّل المسؤولية
ولا يعني ما سبق إهمال #التخطيط أو وأد التطلّعات المستقبلية، غاية التخطيط ومراده هو التعبد لله بمفهوم "الإعداد" الذي أمرنا به، كما نتعبد بسائر الأفعال والعبادات، لأن الحرص على الإعداد من علامات الجدية في تحمّل المسؤولية، خاصة حين ننظر للدنيا بالمنظور الرباني على أنها حرث للآخرة ومزرعة لها، فمن يؤتيه الله أرضا ثم لا يهتم باستثمار كل شبر فيها ليحصد منه شيئا؟ وأي بذور أغلى بالتعهّد من أنفاس الإنسان؟ وأي أرض أولى بالاستثمار من العمر؟
وفي قصة الأطفال الشهيرة "أَلِيس في بلاد العجائب"، عند مفترق إحدى الطرق، تسأل أليس قطة عن الطريق الذي ينبغي أن تسلكَه، فتسألها القطة بدورها:
- إلى أين تريدين الوصول؟
- لا فارق عندي!
- إذن لا فارق أي طريق تسلكين!
إن الحياة هي مفترقات طرق ضخمة ومتشعبة بصورة مجازية، أو بتعبير حقيقي: هي متراتبات من الاختيارات والقرارات، لا تأتي عفوا وإنما تصدر عن نسق من المفاهيم والتصورات والمبادئ كامنة فينا بالضرورة، سواء أكنا يقظين لها أم غافلين عنها، وسواء ساهمنا في بناءها بوعي، أو انقدنا لما أُمْلي علينا.