يعرّف ابن القيم الحياءَ في كتابه "مدارج السالكين" بأنه: "خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ. وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ".
فهو رأس مكارم الأخلاق كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ" [ابن ماجه].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ» [الحاكم].
و#الحياء لا يأتي إلا بخير: فعنه عليه الصلاة والسلام: «الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ». وفي رواية لمسلم: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ».
وأما ما ذاع على الألسِنَة من أنه لا حياء في العلم أو في الحق، فإنما المعنى المقصود هو أنه ليس في طلب العلم النافع مانع يمنعه الحياء أو يحول دونه، لأن الحياء كما اتضح هو الدافع للخير.
ليس في طلب العلم النافع مانع يمنعه الحياء أو يحول دونه، لأن الحياء هو الدافع للخير. وفي ذات الوقت، لا ينفك الحياء عن العلم من حيث إنه "الأدب" في طلب العلم
وفي ذات الوقت، لا ينفك الحياء عن العلم من حيث إنه "الأدب" في طلب العلم. فمِن أهل العلم -سواء كانوا معلمين أم متعلمين- مَن لا يراعي مقام المقال وأدب الخطاب وحسن تخير الألفاظ والعبارات، ولا يهتم بفن استعمال الكناية والتعريض والتلميح الخفي فيما لا يضر بالفهم والفقه، على ما جرى عليه أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية. والحياء ليس مانعاً من القوة في طلب العلم والسؤال والفهم. والقوة في ذات الوقت لا تعني الجرأة على المقام، ولا تضاد تحري الأدب في ذلك .
وأما المقصود في مقولة "لا ينال العلم مستحٍ ولا متكبر"، فهو الحياء بالمعنى العُرفي - في عرف الناس – أي الخجل. من حيث المعنى اللغوي فالخجل هو احمرار الوجه بطريقة لا إراديّة عند الشعور بالحرج أو الارتباك أو الخزي أو الذنب. فهو شعور وارد عند كل أحد، لكن بدرجات متفاوتة من شخص لآخر، والأصل أن يكون محكوما بمواقف – كذنب أو إحراج - وليس السمة الغالبة.
فالخجل مذموم حين يكون طبعاً لازما للشخص، يعيقه عن التواصل البناء وأخذ الحياة بقوة . ومنشؤه في الغالب آفة نفسية في السياق الاجتماعي، فمن السمات الظاهرة الشخص الخجول الشعور بأنه أضعف من الآخرين، وأنه غير قادر على التواصل المتكافئ معهم والتعبير عن رأيه ببساطة، ولو بأدب ولو كان على حق. ولذلك يحاول تفادي الناس والتعاملات في الملأ. و#الخجل مذموم كذلك حين يمنع الإنسان أن يقدم على خير، أو يدفعه للتقصير، أو يعوقه عن السؤال والتفقه وطلب العلم. أما الحياء فلا يمنع من التفقه والسؤال واكتساب الفضائل، بل هو دافع إليها كما تبيّن.من السمات الظاهرة الشخص الخجول الشعور بأنه أضعف من الآخرين، وأنه غير قادر على التواصل المتكافئ معهم والتعبير عن رأيه ببساطة، ولو بأدب ولو كان على حق
وحتى لا يُخلَط الحياء بالخجل، فالخجول إذا أتيحت له الفرصة أن يفعل أمرا غير حميد دون أن يراه أحد لربما فعل، دون مخافة من الله الذي يراه. أو إذا توجّب عليه الإقدام على صواب لربما امتنع، كذلك خشية الناس وكلامهم.
فإشكالية الخجول أن قلبه يراقب الناس أولا، ويقيم لهم اعتبارا فوق ما ينبغي، بينما الحييّ قلبه مع رب الناس . وقد ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: "استَحيوا مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ. قال: قُلنا يا نبيَّ اللهِ! إنَّا لنَستَحيي والحمدُ للهِ قال: ليسَ ذلكَ، ولكن الاستِحياءُ مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ؛ أن تحفَظَ الرأسَ وما وَعى، وتحفَظَ البطنَ وما حوَى، وتذكُرَ الموتَ والبِلَى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فعل ذلكَ؛ فقد استَحيا مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ" ولابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" فصل بعنوان "تعريف الحياء وأقسامه"، ذكر فيه عشر مراتب من مراتب الحياء، لمن شاء الاستزادة.وأختم كلامي بفقرة لمصطفى المنفلوطي في هذا الصدد، حيث يقول: "أتدري ما هو الخُلُق عندي؟ هو شعور المرء أنه مسؤول أمام ضميره عما يجب أن يفعل. لذلك لا أسمّي الكريم كريما حتى تستوي عنده صدقة السر وصدقة العلانيــة، ولا العفيف عفيفا حتى يَعِفّ في حالة الأمن كما يعف في حالة الخوف، ولا الصادق صادقا حتى يصدق في أفعاله كما يصدق في أقواله، ولا الرحيم رحيما حتى يبكي قلبه قبل أن تبكي عيناه، ولا المتواضع متواضعا حتى يكون رأيه في نفسه حقيقة أصدق من رأي الناس فيه".