حكايات من التراث (6).. احترام التخصص

الرئيسية » خواطر تربوية » حكايات من التراث (6).. احترام التخصص
old books4

عدم احترام التخصص هو إحدى المشاكل التي نعاني منها في الأوساط الثقافية، وهي مشكلة تؤدي إلى نشر الأفكار الخاطئة، إذ ينخدع الكثيرون بالألقاب العلمية التي يمتلكها شخص ما، ولا ينتبهون إلى أنه يتحدث في ما لا يحسن، فالمهندس عندما يتكلم في المسائل الطبية، ومثله الطبيب عندما يفتي في المسائل الفقهية، ومثلهما الفقيه عندما يتحدث في السياسة أو الاقتصاد، هؤلاء كلهم قد يخدعون الناس بالألقاب التي يحملونها ويساهمون من هنا بنشر معلومات ومواقف ليس لها أسس تستند إليها.

وما سبق لا يمنع من أن (بعض) الناس قد يستطيع الحديث بشكل علمي متزن في مجال غير الذي يحمل شهادته الأكاديمية، ولكن ذلك لا يكون إلا بأن يكون هؤلاء ممن تعمَّقوا في تلك المجالات التي يتحدثون فيها، ودرسوها، فأضحت من المجالات التي تدخل ضمن تخصصهم.

والقصة التي بين أيدينا اليوم تدور في هذا الفلك:

كان (أبو بكر ابنُ صُبَر)، الذي عاش من 320 هـ، وحتى 380 هـ، أحد العلماء من أصحاب الرأي من مدرسة أبي حنيفة، وكان يُعدُّ من عقلاء الرجال، وكان رأسا في علم الكلام، خبيرًا بالتفسير.

وكان مجال تخصصه الرئيس هو (علم الأصول).

وفي إحدى المرات كان العلماء قد اجتمعوا فسُئلوا عن فتوى في مسألة من مسائل فروع الفقه، فكتبت الفتوى للسائل، ووضع العلماء الحاضرون تواقيعهم على الفتوى...
غير أن ابن صُبَر رفض وضع توقيعه على الفتوى!!!

استغرب أصحاب الفتوى، فالمسألة من المسائل الظاهرة، وليست من المسائل الشائكة، وجوابها يعلمه ابن صُبَر، فلماذا يرفض التوقيع على الفتوى؟

كان ابن صُبَر قاضيًا، وكان قاضي القضاة حاضرًا فسأله عن سبب امتناعه من التوقيع على الفتوى.

لاحظوا معي سبب رفضه التوقيع عليها، وهو سبب يدلُّ على حكمة وبعد نظر:

علل العالم القاضي (ابنُ صُبَرَ) ذلك بأنه صرف عِنايته إلى التخصص في علم الأصول، وهذه المسألة من مسائل الفروع، فليست ضمن تخصصه.

سأله قاضي القضاة مستغربًا: ولكن المسألة ليست من المسائل المشكلة، وحكمها ظاهر؟؟

فقال ابن صُبَر : أخشى إن أفتيت اليوم في هذه المسألة أن أُسأَل بعدها عن غيرها مما فيه غموض وإشكال.

كان يخشى أن يظن الناس إن وجدوا له فتاوى في مسائل من فروع الفقه أنه متخصص في ذلك فيسألونه عن المسائل الشائكة.

وإن سألوه عنها فسيكون بين خيارين: أن يفتي بغير علم، وهذه ستكون مصيبة!

أو أن يعتذر للسائل ولا يجيبه، وهذا سيضيع هيبة العلماء بالظن أنهم يجهلون أو يتكبرون!

لقد رفض ابنُ صٌبَر #الفتوى هنا لوجود من يقوم بذلك من المتخصصين، فاحترم نفسه، وتخصصه، واحترم غيره من العلماء وتخصصاتهم.

هي رسالة للذين يفتون في كل أمر، فيما يعرفون وما لا يعرفون.. سواء في ذلك أمور الدين وغيرها.

احترام #التخصص لن يضركم شيئًا... ولن ينقص احترامكم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
باحث فلسطيني. حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة، وشهادة ماجستير في الفقه وأصوله.

شاهد أيضاً

ماذا لو علمت أنه رمضان الأخير! (1-2)

إن الإنسان الذي يكون لديه عمل دنيوي مهم لا يشعر بطعم الراحة ولا باطمئنان القلب …