قيل كلاهما مصيبة، أن تخرج رأسك من الواقع؛ وأن تخرج الواقع من رأسك. لذلك كان لزامًا على المسلم الداعية أن يحيط بخبر يومه وواقعه حتى يكون دوره فاعلًا ولذلك كان ابن القيم -رحمه الله- يقول: بأن الحق يتبين بأمرين اثنين: أولهما: فهم الواقع، وثانيهما: فهم ما يترتب عليه هذا الواقع من واجب. فمن بذل جهده في فهم واقعه، واستفرغ وسعه في ذلك أدرك مستلزمات هذا الواقع وما يوجبه عليه.
والأمر أكثر صرامة فيمن وضع على كرسي الفتوى والحكم بين الناس، فكيف يمكن أن نتصور مفتيًا في الزراعة دون أن يلم هذا المفتي بطرقها وأساليبها وكيفياتها ومشكلاتها، وكيف يمكن أن نتصور مفتيًا في المال والاقتصاد دون أن يبذل هذا الفتى جهدًا في الفهم دقائق المعاملات المصرفية والائتمانات البنكية والبورصة، وكذلك من أراد أن يفتي بأمور السياسة وطرق الحكم لازم عليه أن يفهم مبادئها وتفاعلاتها وتأثيرها على البلاد والعباد ما خفي منها وما علم.
والواقع في طبيعته متغير، لأن سنة الكون قائمة على التداول؛ فدولاب الحياة لا يتوقف، فالحياة كانت فيم سلف زراعية، ثم إذا بها آلة وماكينة، فإذا بها تقفز إلى تكنولوجيا وأرقام وأمواج تتطاير في الهواء. والإسلام يتلازم مع هذا التطور ويسير معه ليخط للحياة سبيل الرشاد والصلاح، فتدور مع حركة الأجرام والأفلاك تسبح بحمد بارئها وتثني عليه.
من أراد أن ينصب نفسه وصيا على المرابطين في فلسطين، عليه أن يتعرف على فلسطين الموقع والتاريخ، فلسطين الماضي والحاضر، وأن يغوص ليشعر بالبلاء الذي نزل بأهلها
وكذا هو الاجتهاد مرن مقعد بضوابط الإسلام الرحب، وما أروعها من قاعدة تلك القاعدة الشرعية التي تفيد بأن: "الاجتهاد لا ينقض بمثله"، فنجد خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقضي في حادثة بخلاف ما قضى في مثلها سالفا. فيعلمنا -رضي الله عنه- مرونة ما نجدها في يومنا؛ فيقول: "تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي".
وهكذا فهم الأئمة بعده رحابة الإسلام، فكان للشافعي -رحمه الله- فقهه القديم في العراق، وفقهه الجديد في مصر. فما كان يصلح قديمًا أصبح اليوم مرجوحًا، وما كان قديما مقبولا قد يصبح اليوم مذموما، وما هو مقبول في بلد قد يكون منبوذا في بلد آخر. ولئن كان العبد مأمورا في أوقات المحنة والشدة بالصبر والثبات، فهو ذاته مدعوٌ في أوقات الرخاء للحمد والشكر.
وحتى يكتمل وعي المسلم، يتوجب عليه كذلك أن يفهم "الموقع" الذي يتحرك فيه الواقع، لأن ظرف المكان يختلف من بقعة جغرافية إلى أخرى، ولذلك قيل قديمًا: "أهل مكة أدرى بشعابها". ولا يعني ذلك أن الأمر مقصور فقط على أهل مكة وحدهم، لأن الإسلام يأمرنا أن نتجاوز المكان فنهتم بأمر المسلمين أينما حلوا، بل غلّظ على من لا يهتم بأمر المسلمين أنه ليس منهم، فأمة الإسلام أمة واحدة، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، فإذا اشتكى المشرق توعك المغرب.
إلا أن ذلك يلزم دعاة الإسلام أن يمعنوا النظر في ما يلحق بإخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، وحتى يتسنى ذلك فلا بد من التعرف على الأعراف والعادات والتقاليد، بل أيضًا على التاريخ والجغرافيا لكل موقع، فهذا ما تؤكده وتدلل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تدعو للسير في الأرض والسياحة فيها.
وعليه؛ فمن أراد أن يفتي لإخوانه في الصومال، لازم عليه أن يتعرف على الموقع الجغرافي للصومال وما تعانيه البلد، وما هي التركيبة العرقية للسكان، وما هي عاداتهم وتقاليدهم، وما هي مواردهم وثرواتهم، فإن هو انبرى للفتيا دون ذلك كان إلى الخطأ أقرب.
وعليه؛ فمن أراد أن يفتي لإخوانه في الصومال، لازم عليه أن يتعرف على الموقع الجغرافي للصومال وما تعانيه البلد، وما هي التركيبة العرقية للسكان وما هي عاداتهم وتقاليدهم
ومن أراد أن ينصب نفسه وصيا على المرابطين في فلسطين، عليه أن يتعرف على فلسطين الموقع والتاريخ، فلسطين الماضي والحاضر، وأن يغوص ليشعر بالبلاء الذي نزل بأهلها، وما تلاقيه هذه البقعة المباركة من مؤامرات تترا، وما تواجهه من حصار وشدة ونقص، وعليه كذلك أن يطلع على أطياف مكونات شعبها، وتجاذبات أفكار أبنائها، فإن هو لم يفعل ذلك التقط صورة مشوهة تجعله إلى التعسف بل إلى السذاجة أقرب.
ولذلك؛ أحسن علماء الأمة في هذا الزمان حينما جعلوا لكل بقعة وموقع مجلسًا للإفتاء، كمجلس الإفتاء الأوروبي وهيئة علماء المسلمين في العراق، ورابطة علماء فلسطين وغيرها.
مجمل القول أن المسلم الداعية مدعو أن يفهم واقعه المتجدد، وأن يدور معه دورته مع الإسلام، في طواف يتسق مع حركة الكون والحياة، وهو مدعو كذلك أن يتقن فهم هندسة الواقع والموقع، فيصبح أهلا لأن يتفاعل مع إخوانه في بقعة بعيدة، فيناصرهم وينصرهم ويسدي لهم النصيحة ويرجو الله لهم السداد والرشاد.