أصبح #الإعلام اليوم يشكل تحدياً كبيراً في العديد من المجالات، ليس في نقل الصورة الصحيحة والبعد عن التلفيق والكذب فحسب، بل حتى في الحفاظ على خصوصية الأفراد والجماعات.
ففيما يتعلق بالأفراد، فالأمر واضح للعيان، فلقد باتت حياة البعض الاجتماعية كأوراق مكشوفة، تستطيع فيها أن تعرف كافة التفاصيل والأسرار المتعلقة بهم، دون عناء أو تعب ، بل تعدى الأمر ليعكس البعض أسوأ ما فيهم على هذه الصفحات في أحيان عديدة.
لكن ما أقصده هنا، هو عن تعاطي الأفراد مع الإعلام، ليس لكشف الجوانب الشخصية لهم، بل لكشف خبايا سرية دعوتهم، والتصورات التي لم تكتمل، ونشر السلبيات والتشهير بالبعض، باستخدام جميع الوسائل الإعلامية كالصحف أو التلفاز، أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي.
فلا غرابة أن تجد أحداً من "القيادات" يسرب على حسابه على الفيس بوك بعضاً من النقاشات الداخلية حول بعض القضايا الهامة للحركة الإسلامية، دون مراعاة لأية سرية أو احترام للجلسة التي كان فيها.
مروراً بتسريب أسماء الفائزين في الانتخابات غير المعلنة في بعض الدول في الجرائد الرسمية قبل إعلانها داخلياً، ويصبح الصف الداخلي يتابع الأخبار والطعون على الانتخابات "السرية" من خلال الصحف الحكومية والرسمية!
ويشمل ما سبق، تسريب بعض الوثائق والمسودات والتصورات التي ربما لم تنل حقها من النقاش، أو قبل اعتمادها رسمياً وإثارة الجدل حولها، قبل أوانها المقرر، والتبني الرسمي لها.
إن ما سبق من أمثلة وغيرها الكثير، تشكل بحد ذاتها ظاهرة سلبية للغاية ينبغي للعاملين وأصحاب القرار في الحركة الإسلامية الانتباه لها قبل أن تستشري في داخل الصف.
وقد يتساءل البعض، لماذا نعتبر هذا الأمر سلبياً؟ فالإعلام بات يكشف ما وراء الجدر، ولا ستار يغطي نفوذه وانتشاره! إلا أن الحقيقة، أن هذا المنطق بحد ذاته فيه الكثير من المضار والمفاسد التي تلحق بالدعوة وطبيعة عملها. خصوصاً في زمن تربص فيه الكثير من الأعداء الذين يسعون لجرها لأتون معارك جانبية تحيد بوصلتها عن الطريق الصحيح.
إنها خيانة
يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27].
ويقول المفسرون في تفسيرها أنها نزلت في أبي لبابة، وهو رجل من الصحابة، كان بنو قريظة قد سألوه بعد ظهور خيانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، عن حكم سعد فيهم، فأشار بيده إلى حلقه كناية عن الذبح، في تسريب واضح إلى ما يتم اتخاذه من قرار بشأن خيانة بني قريظة.
وحينما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما قام به أبو لبابة، سأل زوجته عنه، أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة؟! في دلالة –كما يقول صاحب تفسير المنار- على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شك في إيمان أبي لبابة، حتى سأل امرأته هل يقوم بواجبات الإسلام؟
وأبو لبابة، لم يقم إلا بتسريب قرار تم اتخاذه، وبقي فقط تنفيذه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يجعل السرية والحفاظ عليها، في غاية الأهمية، فلا قيمة للقرار والنقاش حوله، إذا كان الآخرون يعلمون ما يجري من اقتراحات وقرارات داخلية، وكأنهم يجلسون في ذات المجلس.
لا قيمة للقرار والنقاش حوله، إذا كان الآخرون يعلمون ما يجري من اقتراحات وقرارات داخلية، وكأنهم يجلسون في ذات المجلس
ولا غرابة أن يربط أبو لبابة نفسه بسارية المسجد، ويتوب إلى الله، على فعلٍ صغير ظاهرياً، خطير معنوياً؛ لأنه علم أن هذا مخالف لنهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقوم على السر والكتمان والتأني في قضاء الحوائج واتخاذ القرار. والذي تجلى في العديد من المواقف أكتفي بثلاثة منها:
- فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية من المهاجرين قوامها اثنا عشر رجلاً بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي، ومعه رسالة مكتومة، أمره أن لا يفتحها إلا بعد يومين من مسيره، فإذا فتحها وفهم ما فيها مضى في تنفيذ مهمته.
- وفي بدر حينما قابل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلاً من العرب وسأله عن قريش ومكانهم، فبعد أن أجابهم سألهم من أي القبائل أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ولم يصرح بأنه قادم من المدينة المنورة.
- وفي فتح مكة لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أحداً بهدف التحرك، ولم يصرح بذلك إلا عند اقتراب موعد الانطلاق. كما أن موقفه عليه الصلاة والسلام من حاطب بن أبي بلتعة معروف، حينما أرسل رسالة إلى مكة ليخبرهم بنية المسلمين مهاجمتهم، فبعث النبي علياً رضي الله عنه وصحابة آخرين ليلحقوا بالمرأة ويأخذوا الرسالة منها.
مما سبق، نسنتنج أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان مهتماً بالسرية بشكل كبير، ولا يفهم أن هذا محصور بالأمور العسكرية فحسب، بل إن هذا يشمل كل أمر، فيه مصلحة للمسلمين ولدعوتهم.
النبي صلى الله عليه وسلم كان مهتماً بالسرية بشكل كبير، وليس هذا الأمر محصوراً بالأمور العسكرية، بل إنه يشمل كل أمر فيه مصلحة للمسلمين ودعوتهم
والأصل أن لا يذاع أي أمر صبغ بطابع السرية، ولم يتم السماح بالإعلان عنه ، فهذا من الواجب القيام به، بل هو علامة على حسن الخلق ووجود الثقة فيمن يؤتمن عليه.
يقول الشاعر:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة ... فالسر عند خيار الناس مكتوم.
وقيل: من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه.
لماذا نحارب هذه الظاهرة؟
إضافة لما سبق، فإن هناك الكثير من المفاسد والمخاطر التي تترتب حينما يحرص البعض على السمعة والسبق الإعلامي في تسريب بعض الأمور الداخلية وإظهارها للعلن منها:
1- إحراج الحركة الإسلامية أمام الرأي العام، خصوصاً أن الكثير من التسريبات، تكون عبارة عن مسودات، ربما لم تنضج بعد، أو ما زالت خاضعة للتعديل وإبداء الرأي، أو تحتاج لصياغة أخرى، مما يجعل الحركة الإسلامية في موقف لا تحسد عليه، خصوصاً إذا أثير الجدل حولها، وبدأ الناس بالتحليل والاستنتاج قبل الأوان المقرر لذلك.
2- تشجيع الأفراد على الكشف عن بعض الأسرار الداخلية، وعدم الثقة بالدعوة، فحينما يرى الفرد أن صاحب القرار والمسؤول في دعوته لا مشكلة عنده في الكشف عن بعض المعلومات الهامة، فإن هذا يشجعه بدوره على تداول بعض القضايا والكشف عن بعض الخفايا أمام الناس، مما يعكس صورة سلبية عن الدعوة، وطريقة التفكير، وآلية اتخاذ القرار.
3- تقديم معلومات مجانية للمتربصين، فهؤلاء أسعد الناس بمعرفة ما يدور داخل الدعوة دون عناء أو تعب، وهو ما يساعدهم على وضع المكائد والخطط الكفيلة بعرقلة سيرها، وتحييد دورها، وخلق بعض المشاكل لها.
4- تشجيع الخيانة والعمالة، فمن لا يراعي سرية دعوته فينشر ويسرب بعض الأخبار لوسائل الإعلام دون مقابل، أو بمقابل بسيط، أو لتصدر المشهد الإعلامي، فإن إسقاطه في وحل الخيانة والعمالة سيكون أكثر سهولة، لأن ما يريده ويطلبه معروف، فكيف إذا توفر أضعاف ما يرغب به وينشده!
من لا يراعي سرية دعوته فينشر ويسرب بعض الأخبار لوسائل الإعلام دون مقابل، أو بمقابل بسيط، أو لتصدر المشهد الإعلامي، فإن إسقاطه في وحل الخيانة والعمالة سيكون أكثر سهولة، لأن ما يريده ويطلبه معروف!
لذا على الحركة الإسلامية أن تضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه للقيام بذلك، فتفشي مثل هذه الظاهرة داخل الصف خطير جداً، والسماح لفرد أو اثنين والتغاضي عنهما، في مجال ما، يعني أن الأمر سيتغلغل في المجالات الأخرى، مما يعني ضياع الجهود، وتكبد الخسائر الفادحة لا قدر الله.