لم يكن فوز مرشحة اليمين المتطرف في فرنسا، مارين لوبان، في المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وبالنسبة التي زادت على عشرين بالمائة، مفاجأة للكثير من المتابعين؛ حيث ذلك بمثابة أمر متوقع، في ظل تزايد المساحة التي باتت تعبر عنها ما يُطلَق عليه إعلاميًّا وأكاديميًّا، مصطلح "التيارات الشعبوية" التي هي صنو اليمين المتطرف.
ولا تقف هذه الظاهرة عند مستوى الأحزاب السياسية، وإنما، وهو الأهم، امتدت لكي تملأ مساحات كبيرة من السياق المجتمعي والشارع السياسي، في مقابل تراجع الأحزاب التقليدية، وما يُعرف بـ"المؤسسة"، التي تشير إلى الأطر السياسية والحزبية، الرسمية وغير الرسمية التي سيطرت على عملية صناعة القرار وتوجيه السياسات العامة لبلدان #أوروبا الغربية، وعبر الأطلنطي، في الولايات المتحدة.
وهو – لتقريب المعنى – المصطلح الغربي الموازي أو المقابل لمصطلح "الدولة العميقة" الذي نعرفه في عالمنا العربي؛ حيث يتضمن مصطلح "المؤسسة"، شبكة مصالح كبرى في مجال السياسة والمال والأعمال، بما في ذلك الأحزاب الكبيرة والشركات العملاقة والجامعات ومراكز البحوث والتفكير ووزارات السيادة، والتي تُنتِج التفاعلات فيما بينها، في النهاية، القرار السياسي والاقتصادي الإستراتيجي في هذه البلدان.
ولقد بدا ذلك واضحًا في الانتخابات المحلية التي جرت في #فرنسا، في العام 2015م؛ حيث اجتاز التيار اليميني المتطرف، ممثلاً في مرشحي حزب الجبهة الوطنية الذي كانت تتزعمه لوبان، قبل أن تتخلى عن رئاسته في سياق استحقاقات الرئاسيات الحالية، المرحلة الأولى من الانتخابات في الكثير من البلديات، ولاسيما في بلديات الجنوب التي "تعاني" أكثر من غيرها من أعباء ملف المهاجرين غير الشرعيين.
كما بدا في واقعة فوز الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، بانتخابات الرئاسة الأمريكية، بكل ما تحمله أجندته من عنصرية وكراهية، وبكل خلفياته التي لا يوجد فيه أية فترة من الفترات قضاها – كتأهيل – في مؤسسات السلطة الأمريكية، مثل وزارة الخارجية أو وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، مثل كثير من الرؤساء قبله، أو حتى في الهيئات المسؤولة عن تفريخ رجال الدولة والقانون في الولايات المتحدة، مثل جامعة هارفارد، والهيئات القضائية.
أتت لوبان، كما أتى ترامب، وكما هو من المتوقع أن يأتي غيرهما من قيادات بلدان غربية أخرى من خارج "المؤسسة"، محمَّلين بالكثير من الأفكار غير التقليدية في التعامل مع منظومة المستجدات الحاصلة في بلدانهم وفي العالم بشكل عام.
أتت لوبان، كما أتى ترامب، وكما هو من المتوقع أن يأتي غيرهما من قيادات بلدان غربية أخرى من خارج "المؤسسة"، محمَّلين بالكثير من الأفكار غير التقليدية في التعامل مع منظومة المستجدات الحاصلة في بلدانهم وفي العالم بشكل عام
ومن بين أهم هذه الملفات، قضية "الهوية" أو الـ"Identity"، وفق المنظور القومي الذي بدأ في أخذ حيزًا أكبر في المجتمعات الأوروبية، في مقابل تراجع ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي كانت الولايات المتحدة تشرف على تطبيقها، لمنع تكرار ظهور التيارات النازية والفاشية، أو تمدد الشيوعية والشوفينيات الأوروبية الشرقية، إلى أوروبا الغربية، خلال سنوات الحرب الباردة.
وهنا نصل إلى النقطة الأهم في هذا الحديث؛ وهي أثر صعود تيارات اليمين المتطرف في أوروبا، على المسلمين هناك.
وليس بخافٍ على أحد؛ حيث يتكلم الإعلام ليل نهار عن تطورات الحدث، أن أكثر الفئات تضرُّرًا مما يجري على الساحة الأوروبية والغربية بشكل عام، هم فئتان؛ الأولى، الأقليات المسلمة المقيمة هناك، والثانية المهاجرون، وهي بدورها فئة لا تنفصل عن قضايانا كمسلمين؛ حيث غالبية المهاجرين في بلدان أوروبا والغرب، من بلدان الأزمات والفقر في عالمنا العربي والإسلامي، وخصوصًا سوريا والعراق وباكستان وأفغانستان، بالإضافة إلى مسلمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
وتبدو مظاهر الأزمة في تعهدات بل وقوانين وقرارات تنفيذية تم سنَّها بالفعل من أجل تقييد وصول المهاجرين من العالم العربي والإسلامي، وقارة أفريقيا – برغم مسؤولية الغرب عن بؤسها الحالي بسبب ممارساته الاستعمارية حتى بعد خروجه من مستعمراته فيها – وتقييد حرية العبادة والملبس والمظهر في هذه البلدان.
أما الأثر الأخطر، فهو الأثر في المجالَيْن الثقافي والمجتمعي؛ حيث إن دعم بعض النخب السياسية والرموز الثقافية والمجتمعية، وكذلك الأحزاب الحاكمة، لممارسات تقييدية على العرب والمسلمين هناك، وكذلك على حرية الوصول إلى البلدان الأوروبية والولايات المتحدة على الهوية الإسلامية بالذات – ترامب رحَّب بالمسيحيين السوريين ومنع وصول السوريين المسلمين باعتبار أن مسيحيي سوريا كما قال؛ أكثر حاجة إلى الحماية –؛ هذا الدعم أدى إلى شيوع ثقافة العنصرية والكراهية ضد المسلمين والعرب في هذه المجتمعات.
والآن بشكل يومي؛ نجد أمامنا حالات اعتداء على المساجد والسيدات المحجبات في الشوارع، ونجد أحكامًا قضائية (لاعتبارات موضوعية نقول إنها في بعض الأحيان تنصف المسلمين) في قضايا تتعلق بحالات اضطهاد وتمييز ضد المسلمين في أماكن العمل (تتعلق بشكل عام، بالحجاب وأداء الصلاة على وقتها في مقرات العمل أو الخروج لأجل ذلك).
وبالرغم من أنه ليس من المتوقع أن تفوز لوبان بانتخابات الرئاسة الفرنسية في جولتها الثانية المقررة في السابع من شهر مايو، بعد أن دعا مرشحو الأحزاب الكبيرة الذين لم يجتازوا المرحلة الأولى من الانتخابات، إلى دعم مرشح الوسط غير المؤطَّر حزبيًّا، إيمانويل ماكرون؛ إلا أنه تبقى لهذه النتائج – كما نتائج بلديات 2015م – دلالاتها في صدد اتساع نطاق هكذا تيار.
بالرغم من أنه ليس من المتوقع أن تفوز لوبان بانتخابات الرئاسة الفرنسية في جولتها الثانية المقررة في السابع من شهر مايو، إلا أنه تبقى لهذه النتائج – كما نتائج بلديات 2015م – دلالاتها في صدد اتساع نطاق هكذا تيار
هذه الأوضاع كان من المفترض أن تقود إلى استجابات عدة من الهيئات الإسلامية والعلماء، سواء في أوروبا والغرب، أو في العالم العربي والإسلامي، ولكن هذا للأسف لم يحدث؛ حيث الانكفاء على الوطنيات الضيقة، أو غياب الرؤية الشاملة التي تتطلب حراكًا جماعيًّا، أو الانشغال بدعم الأنظمة الحاكمة في حربها ضد جماعات وحركات الإسلام السياسي.
وهو وضع خاطئ ينبغي إصلاحه؛ حيث إن هذه الصورة تفرض – أول ما تفرض – البدء في وضع معالم فقه جديد للأقليات المسلمة هناك، لأن هذه الأوضاع تتطلب فكرًا جديدًا في التعامل معها، باعتبارها فترة استضعاف، وأنها تعيش في مجتمعات استضعاف.
يشمل ذلك التصدي لموجات الإلحاد أو الشذوذ الفكري، والتي كانت نتيجة حالة الفراغ الفكري والروحي بسبب انسحاب الرموز والمؤسسات الإسلامية من الساحة، وزيادة وتيرة التشويه الإعلامي.
لابد من التصدي لموجات الإلحاد أو الشذوذ الفكري، والتي كانت نتيجة حالة الفراغ الفكري والروحي بسبب انسحاب الرموز والمؤسسات الإسلامية من الساحة، وزيادة وتيرة التشويه الإعلامي
كما أن التصدي للصورة الذهنية الخاطئة التي كرسها الإعلام في ظل ممارسات بعض الجماعات المحسوبة على المشروع الإسلامي، وهو براء من ممارساتها؛ يُعتبر من أهم الأولويات كذلك.
إن هذا الحراك من الصعوبة بمكان، ولكنه واجب وضرورة الوقت؛ لأن من شأن تأخره، إما السماح لتيارات العنف والتطرف بالتمدد لشغل المساحات الفارغة، فكريًّا ومجتمعيًّا، مما يفاقم من أزمة العلاقة بين الإسلام وبين الغرب، أو السماح لتيارات اليمين المتطرف بتحقيق أجندتها التي أخذت في الانتشار في وقتنا الراهن.