في أجواء حالكة من تاريخ الأمة نشأت جماعة الإخوان المسلمين على يد مؤسسها ومرشدها الأول الشهيد حسن البنا، ففي العام 1917 كان وعد بلفور المشؤوم، والعام 1924 تم إلغاء الخلافة الإسلامية ليسقط حائط الصد الأخير للعرب والمسلمين.
في هذه الأثناء نشأت جماعة الإخوان المسلمين ويعرف البنا بها قائلا: لسنا حزباً سياسياً، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا..
ولسنا جمعية خيرية إصلاحية، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا..
ولسنا فرقا رياضية، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا..
ولكننا أيها الناس: فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين.
معالم المشروع الحضاري عند حسن البنا
وضع الشيخ البنا ثلاثة عناصر رئيسة تمثل إطاراً عاماً لمشروعه الحضاري:
1 ــ يحدد البنا في رسالة المؤتمر الخامس موقفه من الوطنية والقومية قائلا: "إن الإسلام فرضها فريضة لازمة لا مناص منها، أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحماً وجواراً، حتى إنه لم يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر، إلا لضرورة" مستندا في ذلك ـ لقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وقوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}.
وصبر النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته قومه ثلاثة عشر عاما، ولم يفكر فيها في الهجرة من أرضه إلا حين استحال استمرار الدعوة وأصبح لزاما عليه أن يهجر الأرض باحثاً عن موطن جديد لدينه المضطهد فاضطر عليه الصلاة والسلام لتوديع مكة موطنه قائلا: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وإنك أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت".
2 ـ وبالنسبة للوحدة العربية، يقول البنا يرحمه الله: "هذا الإسلام نشأ عربياً، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان". وقد جاء في الأثر "إذا ذل العرب ذل الإسلام".
والإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه "ألا إن العربية اللسان". ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه.
3 ـ أما بالنسبة للوحدة الإسلامية يقول البنا: "بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية، والحق أن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة، هو وطن وجنسية، وأنه قضى على الفوارق النسبية بين الناس، فالله تبارك وتعالى يقول: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات10]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم، والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم".
هذا بالنسبة للإطار العام للمشروع الحضاري عند حسن البنا، فأما بعض العناوين التي تميز هذا المشروع فقد ظهرت جلية في الركن الأول للبيعة التي وضعها البنا لأفراد جماعته وهو ركن الفهم، وهذا الركن فصله في عشرين أصل هم الأصول العشرين حددت في إيجاز شديد معالم مشروعه الذي قدمه للأمة.
ضوابط منهج التغيير عند البنا:
اقترن مصطلح التغيير في القرآن بإرادة الإنسان فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ولعل هذا ما دعا البنا إلى مخاطبة الأمة لتحمل مسؤولية التغيير.
في الفترة التي نشأت فيها جماعة الإخوان المسلمين كان البون شاسعاً بين واقع الأمة وبين الهدف المنشود لها، وكان قد تحكم المتغربون في مناهج التعليم ولعب المستشرقون في تاريخ الأمة تزييفاً وهدماً، هذا غير انتشار الصوفية والقبورية وربطها بالتدين، حتى ربط القرآن بالقبور والتدين بالجهل والشعوذة!
وفي هذه الأثناء أتى البنا بضوابط لمنهجه التغييري ومنها:
1- أن تطبيق المنهج الإسلامي الكامل وإقامته في المجتمع لا يقتصر على مجرد الرؤيا الصحيحة أو الفهم الشامل وإنما لابد من تربية وإعداد لمن يتولى التطبيق وقيادة الأمة وهذا الإعداد يجب أن يتم على التربية الإسلامية المتكاملة في الفهم والسلوك والعمل والحركة.
تطبيق المنهج الإسلامي الكامل وإقامته في المجتمع لا يقتصر-عند البنا- على مجرد الرؤيا الصحيحة أو الفهم الشامل وإنما لابد من إعداد لمن يتولى التطبيق وقيادة الأمة
2- اعتقد البنا أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن فهو تجربة فاشلة ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة، فخيرا للأمم التي تريد النهوض أن تسلك إليه الطريق الصحيح باتباع أحكام الإسلام.
3- جواز الاستفادة والاقتباس من الحكمة بما لا يتنافى مع الأصول الإسلامية ليس من باب التقليد وإنما من باب أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
4- التغيير الذي كان ينشده البنا يسع الأمة جميعها وعبر عنه بقوله: (ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية وأضاعت وحدته المطامع الأوربية).
الأهداف التي حددها البنا للعمل لها:
حدد البنا رحمه الله هدفين أساسيين للعمل لهما في تلك المرحلة:
الأول: أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
الثاني: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي وتعلن مبادئه القويمة وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعا آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها.
حلقات تحقيق الأهداف:
وفي أول رسالة أصدرها البنا وهي (رسالة دعوتنا) بين الأركان التي تدور عليها فكرة الإخوان في تحقيق أهدافها، وهي:
1- المنهاج الصحيح.
2- العاملون المؤمنون.
3- القيادة الحازمة الموثوق بها.
ولقد بيّن الإمام أن ذلك يتحقق من خلال عدة دوائر هي:
1- إصلاح الأخ لنفسه.
2- تكوين البيت المسلم.
3- إرشاد المجتمع.
4- تحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي.
5- إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق.
6- إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية.
7- أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه.
وتتلخص آلية التغيير في منهج البنا بالآتي:
أولا: بناء وتكوين جيل جديد:
يسري وينتشر في نسيج المجتمع وجسد الأمة، ويكون مؤثرا في إيقاظ الأمة وتغيير حالها. وهذا الجيل يشكل القاعدة التي يقوم عليها الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية.
يقول البنا: (إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، ويعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها).
ثانيا: نشر الدعوة والتعريف بها وتربية المجتمع:
وفي خط متوازٍ مع الانتقاء والتكوين للركائز، يكون العمل على نشر الدعوة والتعريف بها وتربية المجتمع على مفاهيم الإسلام، وصبغه بالصبغة الإسلامية.
(ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت وأن يسمع صوتنا في كل مكان) مما يتطلب: التطوير والتنويع في وسائل الدعوة العامة، والانفتاح على المجتمع، والتواجد والحوار مع الآخرين، وإعلان الدعوة وأفكارها وموقفها في كل نشاط ومؤتمر وكل حدث أو أزمة.
وحتى يتحقق الأمر، فإن التهيئة والتربية المطلوبة للمجتمع، لابد أن تشمل بحسب البنا ما يلي:
1- تربيته وتعليمه بحقوقه، وكيف يطالب بها وينالها ويحافظ عليها.
2- أن يستطيع أن يميز بين: الرموز والكوادر المخلصة، وبين رموز الفساد وأصحاب المطامع الشخصية، فلا تخدعه العبارات والشعارات المزيفة.
3- أن يصبغ في عمومه بصبغة الإسلام في أخلاقه وعباداته وقيمه ومعاملاته وأن يزداد ارتباطا بالقرآن والمسجد.
4- أن ينحاز رأيه العام لشريعة الإسلام والمطالبة بها.
5- أن يتعلم كيف يضحي ويصبر في سبيل مبادئه التي يؤمن بها.
6- أن يلتف حول الجماعة ورموزها، ويناصرها عن فهم واقتناع وحب، ويتجاوب مع أهدافها، ويتعاون معها في كل مجالات الإصلاح بالمجتمع.
7- أن يستشعر أنه جزء من أمة الإسلام فيعيش قضاياها ويناصرها.