كثيرة هي الجماعات الإسلامية التي اعتمدت سيد قطب -رحمه الله- مرشدًا لها ومنظرا، بعد أن قرأت مؤلفاته وكتبه التي دونها في ظلمة زنزانته. من هذه الجماعات جماعات لا يرضى بها هو نفسه -رحمه الله- بعد أن أخذت جزءًا من أفكاره وساقتها تحت عناوين، مثل التكفير، والولاء والبراء وغيرها.
وليس غريبًا أن تسلك جماعات مغمورة ليس لها مرجعية فكرية راسخة في العلم مثل هذا المسلك الذي أصبح واضحا على أنه انتقائي وغير موضوعي، حيث أنهم أخطأوا خطأ فاحشا لأنهم ما عرفوا أسلوب سيد وأفكار سيد. فسيد قطب لم يسم نفسه يوما فقيها أو مفتيا، وهذا بدا واضحا جليا في مقدمته لكتاب "في ظلال القرآن الكريم" الذي دونه في ظلمة زنزانته، فهو لم يعرف نفسه سوى بمفكر إسلامي، حرقته أحوال الأمة ولذعت قلبه الندي. نعم هو مفكر إسلامي حوت مؤلفاته قيمة عظيمة قل من يفهمها، وهو كذلك أديب من الطراز الأول، واسع الخيال ملتهب القلب.
أما زاوية الخطأ التي وقعت فيها بعض الجماعات، فكانت بأنهم أنزلوا المجاز من كلماته وأفكاره منزلة الحقيقة، وأنزلوا تعابيره الأدبية منزلة الفتوى، وما دروا أن الفتوى والأدب بينهما بون واسع. ما دروا أن الأديب واسع الخيال تحمله الحماسة على إطلاق كلمات نارية وتعابير حدها مثل حد السيف، لأنه يستنهض الهمم ويرغّب بالجهاد، ليداوي أمراض النفوس التي تميل إلى التثاقل إلى الأرض.
أدرك قطب أن الجاهلية منظمة ولا بد من مقابلتها بإسلام محكم التنظيم، قائم على تربية الصفوة والنخبة والنواة الصلبة؛ التي أسماها جيلا قرآنيا فريدا يهوى الاستعلاء والمفاصلة
هذه النفوس يريد لها سيد -رحمه الله- أن تنفض عنها غبار العجز والكسل والترخّص، لتنهض بعزيمة نحو المعالي. لذا نجده لا يتقيد بمعاني الفقه ومرادفاته الصارمة، بل يعطي نفسه الحرية في إلهاب المشاعر بالمجاز، والمسافة شاسعة بين هذه وتلك؛ بين لغة الفقه ولغة الأدب والحماسة. فيأتي ثلة من شباب ينقصهم كثير من وعي وفطنة، فيتعاملون مع أسطر أدبية على أنها نصوص فقهية وفتاوى شرعية، فتبتعد تصوراتهم وأفكارهم عن موازين الفقه الصحيحة.
حدث هذا حين استطرد سيد -رحمه الله- في وصف الجاهلية في القرن العشرين، وضرورة مفاصلتها والبراءة منها، وكان مصيبًا؛ فأدى مهمته بنجاح، وكان مقصده حفظ معنويات الأمة الإسلامية من غزو فكري يرمي إلى حرف الأمة عن ماضيها ومجدها وثقافتها، وهو كذلك دعا الدعاة إلى عمل إسلامي يستدرك ويعيد الحكم إلى شرع الله.
لقد أدرك سيد قطب أن الجاهلية منظمة ولا بد من مقابلتها بإسلام محكم التنظيم، قائم على تربية الصفوة والنخبة والنواة الصلبة؛ التي أسماها جيلا قرآنيا فريدا يهوى الاستعلاء والمفاصلة. وهذه كلها معان تربوية أكثر منها معان فقهية. وجاءت شهادته واستشهاده -رحمه الله- لتزيد تأثير كلماته في شباب مكبوت محاصر، فأخذ بعضهم يفهم كلامه على أنه تكفير ودعوة لعنف فوضوي، فنهض جدل واستعرت فتن وامتلأت سجون، ولفت حول الأعناق حبال؛ وسيد بريء من ذلك، إنما هو التعجل والتسرع من هؤلاء النفر، ولو طلبوا الفقه وقول الأئمة لوجدوه قريب المنازل.
الناظر إلى مؤلفات سيد قطب لا يراها تحمل عناوين فقهية صارمة، بل تنطوي على أدب رفيع وبلاغة رائعة فمن هذه المؤلفات: معالم في الطريق، التصوير الفني في القرآن..
ولكن نلتمس لهم العذر، فقد كانوا يعانون الاضطهاد الذي ساعدهم على الغلو، وكان سيد -رحمه الله- بمعزل في سجنه ثم أعدم، فلم يستطع أن يوضح مقصوده لهم والرد عليهم، والاستدراك على بعض ألفاظه وكلماته التي أدلّت على غير مراده. كما أن الجو العام في مصر آنذاك كان جوا لانعدام الحرية والمجالسة والتجمع والتدريس، حيث أن علماء الدعوة كانوا هم أيضا ينالون حظا من التضييق والقهر، فترعرع فكر التكفير دونما رقيب وردود فكرية مكافئة. بل كان علماء السوء (علماء السلطان) يردون بما يوافق هوى الحاكم، فزاد الغموض، وساد ضبابٌ أفقد الرؤية.
علاوة على ذلك فإن الناظر إلى مؤلفات سيد قطب لا يراها تحمل عناوين فقهية صارمة، بل تنطوي على أدب رفيع وبلاغة رائعة فمن هذه المؤلفات: معالم في الطريق، التصوير الفني في القرآن، التصوير وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، في ظلال القرآن الكريم، وغيرها.
وأخيرا، فإن سيد قطب -رحمه الله- ظلم مرتين؛ مرة من عدوه وهو ظلم واضح لا يحتاج إمعان منظر، ومرة من بعض مريديه الذين تأوّلوا كلماته وحملوها ما لا تحتمل، فأدخلوا أنفسهم في أنفاق مظلمة سيد منها براء.