مرة أخرى ندخل في جدال الموقف من الضربات الأميركية لدولة عربية، فتختلف حولها الآراء ويصعب التمييز بين المواقف الوطنية وتلك المنحازة لتسلط الحكام أو حتى تلك المحسوبة على أعدائنا. ضربت أميركا مطار الشعيرات العسكري السوري ردا على إلقاء طيران النظام السوري المجرم قنابل كيميائية تحتوي غاز السارين على خان شيخون بريف إدلب!
شاهدنا بأم أعيننا كيف يجاهد الطفل الصغير لالتقاط أنفاسه وبجانبه عشرات الجثث الممددة التي أسلمت الروح إلى بارئها بعد أن استنشقت ما فيه الكفاية من الغاز السام والمحرم دوليا! تعالت أصوات الإدانة العربية والدولية لما جرى، ومنعت روسيا حليفة النظام صدور أي إدانة له. ووجد الرئيس الأميركي نفسه مضطرا لفعل شيء لتأكيد قوته ووجوده واختلافه عن سلفه باراك أوباما، فأطلقت بوارجه الحربية 59 صاروخا من طراز "توماهوك" على مطار الشعيرات الذي قالت إن طائرات النظام انطلقت منه، ولكنه لم يغير موقف سلفه الذي لا يريد إسقاط النظام ولا نيل الشعب السوري حريته!
هنا دخلت الأمة في صراع نفسي وفكري، فاختلطت منظومة القيم بالعواطف والرغبة في رؤية النظام السوري يدفع ثمن جرائمه، لتضيع وسط ذلك الحقائق وتختلف المواقف. وهنا كان لا بد من تأكيد أن ما قام به ترمب لم يكن دفاعا عن المظلومين، ولكنه نابع من حسابات داخلية وخارجية جعلت الإدارة الأميركية تبلّغ حليف النظام السوري بالضربة قبل وقوعها، وأن تكون الضربة محدودة زمانيا ومكانيا، لتقول واشنطن بعدها أنها لم تضرب مدارج المطار وأبقتها صالحة للعمل ربما ليستخدمها النظام في ضربات غير كيميائية!
الذين رأوا عدم تأييد الضربة كانت لديهم فلسفة صحيحة وهي أن واشنطن لا تعمل نيابة عنا ولا دفاعا عن مصالحنا، بل إن همها الأول والأخير ألا يتوفر الكيماوي للنظام ولإيران خوفا على إسرائيل. وباستثناء حلفاء النظام المجرم الذي أدانوا الضربة الأميركية، فإن المخلصين اعتبروا ذلك استباحة لأراض عربية، كالاستباحة الدائمة لحليف أميركا (إسرائيل) لفلسطين واستباحات الفرس لكل من العراق وسوريا واليمن وغيرها، واستباحة الأكراد لكل من سوريا والعراق وهم حلفاء الأمريكان.
الذين رأوا عدم تأييد الضربة كانت لديهم فلسفة صحيحة وهي أن واشنطن لا تعمل نيابة عنا ولا دفاعا عن مصالحنا، بل إن همها الأول والأخير ألا يتوفر الكيماوي للنظام ولإيران خوفا على "إسرائيل"
والذين أيدوا الضربة استندوا إلى عجز الفعل العربي، وكانوا كالغريق الذي يتعلق بالقشة. وإذا كان هؤلاء من المخلصين ويتحرقون لما يجري للشعب السوري المظلوم، فإن عليهم أن يدركوا أن ذلك لا يغني عن التحرك الذاتي وعدم التعويل على الموقف الأميركي المتواطئ أصلا فيما يجري للشعب السوري من خلال تحالفه غير المعلن مع روسيا وعدم وضع بشار الأسد على قائمة الشطب، بل والتعويل عليه في التصدي لداعش والتنظيمات المتشددة داخل سوريا. ولنا أن نتخيل حجم الرد الأميركي لو استخدم السلاح الكيميائي ضد "إسرائيل"، بل وحتى ضد الأردن (لا قدر الله).
المشتركات بين الموقفين كبيرة، فديارنا العربية مستباحة الآن ليس من أميركا فقط وإنما من الروس والإيرانيين وميليشياتهم، وسواء قصف ترمب مطار الشعيرات أم لم يقصف، فإن إدارته تدير الفوضى في منطقتنا العربية لصالح العدو الإسرائيلي وتفوقه. وللأسف فإن تورط إيران في هذا المستنقع يضعفها ويضعف أدواتها مثل حزب الله، ويؤدي إلى دخول المنطقة في صراع طائفي لا يستفيد منه إلا أعداء الأمه وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني.
الطغاة على مر السنوات في منطقتنا العربية استدعوا بأفعالهم سخطا جماهيريا دخلت القوى المستعمرة من خلاله إلينا، إلا أن ذلك لا يبرر التعاون وطلب معونة الاستعمار ولا القبول بوجوده بكل إفرازاته في منطقتنا
وهنا، لا بد من استدعاء ما حصل لدى توجيه واشنطن ضربة شاملة للنظام العراقي عام 1992م، الذي ارتكب حماقة احتلال الكويت، وكذلك ضرب العراق عام 2003م، تحت حجة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والعمليات الأميركية في ليبيا والتي أدت لمقتل الرئيس معمر القذافي. ففي كل هذه الحالات دخلت الأمة في جدل حول كيفية التخلص من الحكام الطغاة وما يستدعيه ذلك من التدخل الخارجي بسبب استعصاء هؤلاء الطغاة على إرادة الشعوب.
والثابت في الأمر أن الطغاة على مر السنوات في منطقتنا العربية استدعوا بأفعالهم سخطا جماهيريا دخلت القوى المستعمرة من خلاله إلينا، إلا أن ذلك لا يبرر التعاون وطلب معونة الاستعمار ولا القبول بوجوده بكل إفرازاته في منطقتنا، كما يستدعي ذلك تحريك الفعل الذاتي للأمة لنيل حريتها، لأن تدخل الاستعمار هو شر محض ولا يمكن أن يأتي بخير.