"هو الملك الناصر، من أشهر ملوك الاسلام. كان رقيق النفس والقلب، على شدة بطولته، رجل سياسة وحرب، بعيد النظر، متواضعاً مع جنده وأمراء جيشه، لا يستطيع المتقرب منه إلا أن يحس بحب له ممزوج بهيبة. اطلع على جانب حسن من الحديث والفقه والأدب ولا سيما أنساب العرب ووقائعهم، وحفظ ديوان الحماسة. ولم يدخر لنفسه مالاً ولا عقاراً". (الأعلام، الزركلي)
هذه الترجمة السابقة، هي ترجمة لفاتح القدس، ومطهرها من الصليبيين، ومن وحّد الأمة الإسلامية في واحدة من مراحل الضعف التي مرت بها، ترجمة للسلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
صلاح الدين، الذي بتنا نسأل الله تعالى أن يرزقنا بشخص مثله، يوحد الأمة، ويجمع شملها، ويوحد صفها لمجابهة أعدائها، وتحرير مقدساتها، من دنس الأعداء والمستبدين.
ورغم ما يحتله صلاح الدين رحمه الله من قيمة ومكانة سامية في نفوس المسلمين، إلا أن البعض يصر على مخالفة الحقائق الثابتة، ومهاجمة مشاعر المسلمين قاطبة، فيتحدث عنه بأبشع الصفات، ويفتري على التاريخ، ويخترع أحداثاً سينيمائية من مخيلته، ليصل إلى نتيجة إلى أنه "أحقر شخصية في التاريخ".
الانتقاص من الرموز الدينية والتاريخية، يتماشى مع حملة أكبر، تستهدف زعزعة ثقة الأمة بدينها، وتشويه صورته في نفوسها، عبر التقليل من قيمة أبطالها وحاملي لوائها
ولا عجب في ذلك، فهذا وغيره، دأبوا على مهاجمة رموزنا وأعلامنا، في ظل سكوت متواطئ، أو مغلوب على أمره، وبنفس الوقت، يتماشى مع حملة أكبر، تستهدف زعزعة ثقة الأمة بدينها، وتشويه صورته في نفوسها، عبر التقليل من قيمة أبطالها وحاملي لوائها، حتى وصل الأمر إلى المعصوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن من الشخصيات التاريخية الإسلامية سلمت من التطاول والانتقاص؟!بل قام أحدهم بتأليف رواية يطعن فيها بالصحابة الكرام، ويصورهم كأنهم قتلة مأجورون، أو مرتزقة تبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، لتحقيق أغراض دنيوية ومصالح شخصية. مع أنهم خير الناس بعد الأنبياء كما يعلم الجميع.
ليست الوحيدة.
لا شك أن كل مسلم يحب دينه، يحزنه أن يرى مثل هذه المواقف، فبدل من أن نربي أبناءنا على سيرة وأمثال هؤلاء، ونحرص على اقتفاء خطاهم، وتتبع منهجهم، نجد أن الإعلام "في بعض وسائله" بات يجرنا إلى معارك جانبية، للدفاع عن هذه الشخصيات، بدل تعميم سيرتهم، وتطبيق جوانبها في حياتنا.
وهذا الأمر، هو بحد ذاته جزء من سياسة مدروسة، تدور رحاها على وسائل معينة:
1- التشكيك في الشخصيات والأعلام، بداية من الصحابة، ومروراً بأولئك الذين يرتبط اسمهم بالفتوحات والانتصارات، منذ العهد الراشدي، وانتهاء بالعهد العثماني. سواء بالكتابة والروايات، أو الإنتاج الفني السينيمائي، وغيره، مستغلين ضعف المسلمين في التعريف بهذه الشخصيات بطرق حديثة، وأقصد اللجوء إلى الأعمال الفنية والميديا، نتيجة عوامل كثيرة، لست بصدد الحديث عنها هنا. بالإضافة إلى استغلال سكوت السلطة وتواطئها، لأنه يقتل في النفوس أي اتباع لتلك الشخصيات التي لم تجلب للأمة إلا الحرية والتخلص من التبعية والاستبداد.
المشككون والمهاجمون يستغلون سكوت السلطة وتواطئها، لأنه يقتل في النفوس أي اتباع لتلك الشخصيات التي لم تجلب للأمة إلا الحرية والتخلص من التبعية والاستبداد
2- التقليل من جهود العلماء السابقين، وانتقاصهم بطريقة "أكثر تهذيباً" من خلال الحديث عن خرافات وأكاذيب ضموها في كتبهم، وتتبع "الشاذ" من الآراء أو الاجتهادات، أو حتى بعض "الأخطاء" التي وقعوا فيها، وتناسي الخير الكثير الذي قدموه للأمة، مما يعزز في الأجيال التالية ضرورة التحرر مما قدمه أولئك الأعلام من اجتهادات وهدي وفهم للشريعة، و صرنا نرى من بعض "طلاب العلم" أفكاراً مبتدعة، بتفسيق بعض العلماء، أو إسقاطهم من الاتباع، وحصر الدين في بضعة منهم ، وهو بحد ذاته خدمة للهدف الأكبر الذي يريده أعداء الأمة والمنافقون بها. وقد نبه العلماء إلى خطورة هذا المسلك، فيقول الطحاوي رحمه الله، في كتابه: "و علماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين -أهلِ الخير والأثر، وأهلِ الفقه والنظر- لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء، فهو على غير السبيل". والنصوص في هذا كثيرة، يرجع إليها في مظانها.
3- التشكيك بالسنة النبوية، وهي الوسيلة الأخطر، وبتنا نسمعها بشكل أوضح في هذه الأوقات، واتهام بعض الرواة، كأبي هريرة، وعائشة، وأنس وغيرهم –رضي الله عنهم- بالكذب، أو التشكيك بسماعهم للروايات، وهو بحد ذاته مهاجمة وانتقاص لأولئك الأعلام، الذين شهد لهم أهل هذا الفن "علم الجرح والتعديل" بالعدالة والصدق والضبط، مما يعزز في نفوس المسلمين، أن لا شيء ثابت في الدين، وأن كل حديث لا يوافق هواك، أو هوى المستبد في السلطة ومن معه، فهو لا يصح، وصاحبه متهم بالكذب والوضع، حتى لو شهدت له الأمة بذلك!!
إن هذه الوسائل الثلاث، قد سقط البعض في شباكها وهم لا يعلمون، وساروا في فلكها بجهلهم وقلة درايتهم؛ بحجة خدمتهم لدينهم، وسعيهم لنهضة أمتهم.
فهناك فرق بين انتقاص الأشخاص، وتشويه صورتهم، وبين السعي لتحرير المسائل وبيان أدلتها، ومعرفة الراجح بين الآراء المتعددة، وفق منهج علمي رصين، لا يعتمد على الهوى والتشهّي.
هناك فرق بين انتقاص الأشخاص، وتشويه صورتهم، وبين السعي لتحرير المسائل وبيان أدلتها، ومعرفة الراجح بين الآراء المتعددة، وفق منهج علمي رصين، لا يعتمد على الهوى والتشهّي
واجبنا..
إن أمتنا عليها أن لا تبقى في وضع الدفاع عن شخصياتها، فليس كل سفيه يستحق منا أن نواجهه ونعطي له قيمة ومكانة، لكن كثرة السفهاء، وتشويههم المستمر، يقتضي منا منهجاً شاملاً وواعياً لمجابهتهم بالأمور التالية:
1- التعليم الصحيح، الذي يقدّر علماءنا وجهودهم، ويحترم أعلامنا وشخصياتنا، وهذا يحتاج إلى العديد من المنابر لإيصاله، فالمدارس، والجامعات، والمساجد، وغيرها. هي أدوات هامة جداً، في تصحيح الفكر وتقوية صلته بهذا الدين. وتشكيل مناعة داخلية تواجه مثل هذه الادعاءات والهجمات.
2- الضغط على السلطة، بإصدار التشريعات التي تحمي هذه الشخصيات من الانتقاص والمهاجمة، فهناك فرق بين الانتقاص والنقد العلمي لبعض المواقف، كما أشرت سابقاً. وهذا يحتاج إلى سياسة ووعي في كيفية إقناع السلطة، ويمكن أن يكون من خلال المشاركة السياسية، أو العمل النقابي، أو غيره من الوسائل؛ لأن السكوت يعني أننا سنفتح الباب لهجمات أشد، وفي نفس الوقت، سيقوم البعض من المسلمين بالرد على هذا بشكل أعنف، مما يفتح الباب على المزيد من المشاكل والفوضى.
السكوت عن هذه الهجمات، يعني أننا سنفتح الباب لهجمات أشد، وفي نفس الوقت، سيقوم البعض من المسلمين بالرد على هذا بشكل أعنف، مما يفتح الباب على المزيد من المشاكل والفوضى
3- الاستفادة من العمل الفني في تسويق الشخصيات، وإيصال بعض الرسائل من خلالها، فالفيلم والمسلسل، باتا أكثر تأثيراً من باقي الوسائل، وكم أسجل إعجابي بمن قام بإنتاج مسلسل "عمر" الذي أوصل الكثير من الحقائق بطريقة درامية رائعة، حوت الكثير من الدروس، وكذلك الحال مسلسل "أرطغرل" وغيره الذين يسلطون الضوء على شخصيات مغمورة عند الناس، إلا أنه يجعل منهم أبطالاً ويصحح الفكرة ويعزز قيم الوحدة والتحرر والعزة وغيرها.
إن تخصيص الأموال للأعمال الدرامية التي تعرّف الناس بهذه الشخصيات، تعتبر مثالاً على الصدقة الجارية، التي لا ينقطع خيرها أبداً ، وإن تأهيل أبنائنا واستغلال الطاقات لإنتاج مثل هذه الأمور، من أوجب الواجبات؛ لأن بها نصنع رأياً عاماً فاضلاً، يحمينا من الانجرار إلى معارك جانبية ليست ضمن أولوياتنا، بل يؤسس إلى مراحل أكثر تقدماً في سبيل حرية الأمة ونهضتها.