الاشتغال بالمستقبل عن الحاضر

الرئيسية » خواطر تربوية » الاشتغال بالمستقبل عن الحاضر
29f98bbf-47d2-45c8-840e-2be65f36be25

- أين ترى نفسك بعد عشر سنوات؟!
- "خطط لمستقبلك"

- "الخطة الخمسية"، "الخطة العشرية"... إلخ

قبل تعيين الإشكالات الكامنة في تلك التوجهات الحياتية، نتوقف عند دلالة مفهوم #التخطيط الذي نعنيه في هذا التصور.

التخطيط من حيث المبدأ يراد به التنظيم، والتنظيم بديهيًا لا يمكن أن يكون إلا لما هو موجود أو قائم، مع تطلّع موزون لما يترتب عليه أو يستتبعه. تمامًا كما لو أنك في الدور الأرضي في بناية ما وتتطلع للوصول للعاشر، وكل دور له متطلباته التي لن تعرفها حتى تبلغه.

فمن حسن الإعداد أن تخطط بإتقان لعبور الأول، واضعًا في الاعتبار تطلعك للوصول للثاني. أمّا أن تظل في تخطيط وحسابات وتوقعات وتخمينات حول العاشر وأنت بعد في الأول، فهذا لم يعد تخطيطًا ولا تطلعًا في محله.

ذلك أنه بقدر ما تؤدي الغفلة عن الرؤية الكلية لتخبط خطوات السير المرحلية، كذلك التطلع للطريق عن بعد ليس كالسير الفعلي فيه. الطريق لا يتضح إلا لسالك. فبدون التركيز في حاضرك لن يمكن لرؤيتك المستقبلية أن تنضج أو تتضح . وإذا لم تقدِم على الخطوة الأولى ولم تبلغ الدور الأول في البناء، فلن يمكنك حقيقة تصور ما بعده، لأنه ليس من أساس تبني عليه تصورًا صائبًا. وأي إغراق في تصورات الدور العاشر ومتطلباته وأنت بعد في الأول، لا تعدو كونها تخمينات وضربًا في عماية.

أن تظل في تخطيط وحسابات وتوقعات وتخمينات حول الدور العاشر وأنت بعد في الأول، فهذا لم يعد تخطيطًا ولا تطلعًا في محله

إذن الإشكال الأول في هذه التوجهات بعيدة المدى أنها كثيرًا ما تحيد بالتخطيط عن تنظيم الحاضر الفعلي للانشغال بما سيكون عليه #المستقبل، وما ستصير إليه النتائج، وما سيوافقه من توقعات ويلائمه من سياقات. وإنه لمن العبث الواهم أن تصرف فكرك وطاقاتك وجهدك في التخطيط التفصيلي ممتد الأمد، ليس فقط لأنك لا تضمن عيش تلك السنوات الخمس أو العشر (أو اليوم التالي حتى!)، بل لأنك أنت نفسك لن تظل نفس الشخص فكرًا ووجدانًا وتطلعًا، ولا كل المؤثرات حولك ستبقى على حالها.

“أتدري كيف يسرق عمر المرء منه؟ يَذْهَل عن يومه في ارتقابِ غَدِه، ولايزال كذلك حتي ينقضي أَجَله، ويده صِفر من كل خير، إننا نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها: نحيا كل يوم منها وكل ساعة" "الغزالي- جدد حياتك"

أضف إلى هذا أن ذلك التوجه في مجمله وآثاره النفسية على المدى البعيد، مناقض لمفاهيم قِصَر الأمل وذكر الآخرة في مرجعيتنا. إن نفسية "طول الأمل" التي تغرسها تلك التوجهات تحوّل المستقبل من استبشار بغد جديد تستزيد فيه خيرًا وعملًا صالحًا، إلى هاجس مقيم عما سيقع في الأسبوع التالي والشهر المقبل والسنة الجديدة، وكم ستدخر؟! وماذا تصرف؟! وماذا لو احتجت كذا؟! أو لم يتيسر كذا؟! وماذا لو كبر الصغير؟! أو مرض الصحيح؟! ومتى ينتهي هذا المشروع؟! وماذا لو استغرقت أكثر من "المخطط"؟! وماذا لو لم يسعفك العمر لإتمام قائمة الإنجازات؟! وقائمة لا تنتهي من اللو والسوف والإذا! فتعيش حياتك لاهثًا من الجري المستقبلي وراء ما لا يتسع وقتك للاستمتاع به أو معايشته الآن، في سباق محموم لا مبدأ له ولا منتهى.

ومن هنا قد يغرق كثيرون في أحلام اليقظة وأوهام العظمة المنتظرة، في محاولة لا إرادية للهروب من مشقة العمل الفعلي، والتركيز في بناء الحاضر حتى تبلغ به المستقبل المتطلع. فالتطلع للطريق أيسر بكثير من السير نحوه، ونشوة التخطيط للتخطيط أكثر جاذبية من ملل الصبر على الصغير حتى يكبر، وعلى الطريق حتى يتضح، وعلى الرؤية حتى تنضج، وعلى الكتاب حتى ينتهي، وعلى الآيات حتى تحفظ، وهلمّ جرًّا. وإن لك أن تطمح لأعلى درجات الإنجاز والنجاح التي ترجو أن تبلغها، لكنها لن تتعدى التخيلات ما لم تشرع في السير الفعلي تجاهها، بأي خطوة مهما صغرت، وفي ضوء الرؤية المتاحة في سياقك الحالي مهما بدت غير مكتملة.

التطلع للطريق أيسر بكثير من السير نحوه، ونشوة التخطيط للتخطيط أكثر جاذبية من ملل الصبر على الصغير حتى يكبر، وعلى الطريق حتى يتضح، وعلى الرؤية حتى تنضج

لذلك كان من فقه سلفنا الصالح مقولة "سيروا إلى الله عُرجًا ومكاسير، فإن انتظار الصحة بِطالة". عيْن البِطالة هو في انتظار المستقبل المثالي أو اللحظة المواتية أو التفرغ الكبير أو المساحة المعتبرة أو الظروف الملائمة، ويمضي الوقت آكلُا معه من أعمار المنتظرين! أما التفاؤل الحقيقي في عقيدتنا فهو الجمع بين أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا ولآخرتك كأنك تموت غدًا ، كليهما معا، لأن أحدهما يصب في الآخر ويعين عليه. لكننا اتكأنا على نصف المعادلة الأول حتى رزح تحت وطأة ثقلنا، فلا صلحت دنيانا لأننا لن نعيش حقيقة أبدًا، ولا أدركنا آخرتنا فعلًا لو متنا غدًا!

ختاماً، تذكرة بالوصية النبوية:

“بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟” (رواه الترمذي وهو حديث حسن)
مذ كم تَعِد نفسك وتقول: غدًا، غدًا؟
فقد جاء الغد وصار يوماً، فكيف وجدته؟
نسأل الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …