من المعروف أن ركن #الثقة هو ركن من أركان البيعة التي وضعها الإمام #البنا، وهي في مجموعها أركان لبيعة جماعة الإخوان المسلمين، ولا يتم انتساب أحد إليها إلا إذا توفرت فيه هذه الأركان توفّراً كاملاً غير مخلٍّ ولا ناقصٍ، أو يبقى منتسباً صاحب خلل، تتوجه أنظار المربين والقادة إلى إصلاحه.
وركن الثقة هو من الأركان المركزية التي تمس مسّاً عميقاً آليات وشكل العمل الجماعي المنظم .
وقد تناول الكثيرون هذا الركن بالشرح والتعليق والتفسير، وافتأت عليه الكثيرون ما ليس من معناه ولا من ظلاله عن سوء فهم منهم أو عن سوء قصد، وكان هذا الركن سبباً في كثير من الأحيان في لغطٍ وجدالٍ وممارساتٍ تسبب الكثير من الإشكالات داخل الجماعة.
كان ركن الثقة سبباً في كثير من الأحيان في لغط وجدال وممارسات تسبب الكثير من الإشكالات داخل الجماعة
والذي يلفت انتباهنا ابتداء أن أركان البيعة هذه قد وضعها الإمام البنا وقال في وضعها أنه قصد بها (الإخوان المجاهدون من الإخوان المسلمين)، لكن من الواضح في كلامه رحمه الله أنه أرادها أركاناً للبيعة عند الإخوان المسلمين عامة، وأن حديثه عن المجاهدين منهم إنما هو حديثٌ من باب تحفيز النفوس إلى الاهتمام بهذه الأركان اهتماماً عظيماً، وتحفيز الأفراد إلى أن يكونوا جميعاً في مرتبة الإخوان المجاهدين، وأن لا يرضوا أن يكونوا أقل من ذلك، وإلا فإن لهم حديثاً آخراً غير الحديث عن هذه الأركان كما قال رحمه الله: (وأما غير هؤلاء فلهم دروس ومحاضرات وكتب ومقالات ومظاهر وإداريات، ولكلٍّ وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات).
ومما يلفت انتباهنا أيضا في تعريف الإمام البنا للثقة أنه حصرها في ثقة الفرد من الإخوان في قيادته فقال: (وأريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئناناً عميقاً ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة،.. وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية والشيخ بالتربية الروحية والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة.. والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات).
ولكن مفهوم الثقة عند الإخوان أخذ بعد ذلك إطاراً أعم وأشمل، وأصبح الحديث عن الثقة في كل مجالٍ ومكانٍ، وأصبح كل اعتراض ونصح لأيٍّ من جزئيات العمل والتنظيم والقيادة هو من أعراض اختلال ركن الثقة عند الفرد.
أصبح كل اعتراض ونصح لأيٍّ من جزئيات العمل والتنظيم والقيادة هو من أعراض اختلال ركن الثقة عند الفرد
حديث الإمام البنا عن الثقة متوجه للأفراد؛ لكي تكون ثقتهم في قيادتهم، الثقة التي تنتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، وذلك كما قال رحمه الله.
والطاعة كما أمرنا الله بها لا تكون طاعةً عامةً بلا شرط إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تكون لأحدٍ من بعدهما إلا بشرط موافقته لهما، وإلا فلا طاعة له كائناً من كان.
وبالتالي فالثقة عند الإخوان لقادتهم مشروطة بموافقة هؤلاء القادة للحق والصواب بمفهومه الشرعي أولاً ، فإذا كان الخيار في أمر ما بين حلال وحرام، فلا يكون رأي القادة ولا توجههم إلا ناحية الحلال، وإلا فلا طاعة لهم، ويُضرب برأيهم عرض الحائط، وهذا يقيناً كان معروفاً ومقصوداً في منهج الإمام البنا وفي توجهه.
وإذا ما كان الخيار للقيادة في أمرٍ ما بين مفضول وفاضلٍ، أو بين رأيين سياسيين أو حركيين ليس فيهما حلالٌ وحرام، فلا طريق حينها إلا أن يجتهد القادة فيما بينهم، معتمدين على الشورى في قرارهم، على أن تتأكد ثقة الأفراد في قيادتهم حينها، وهي ثقة في أنه لا طريقة أفضل من أن تتخذ القيادة القرار بالشورى فيما بينها، ثم يكون من بعدها التوكل على الله، وليست الثقة في أن القرار الذي ستتخذه القيادة هو القرار الأصوب أو الأفضل، فكم من قرار أخذ بهذه الطريقة ثم تبين بعد ذلك خطؤه، أو تبين أن هناك من القرارات ما كان أفضل منه.
الثقة هنا في طريقة أخذ القرار، وهي الطريقة التي شرعها الله لنا، ففي شرع ربنا يتخذ القرار أهل الحل والعقد، وهم القادة، على أن يتخذوا قراراتهم بالشورى فيما بينهم.
لا ثقة لفرد مهما علا تنتج طاعة عمياء له، فلا معصوم إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، والفتنة لا تؤمن على حيّ، ولقد رأينا بأعيننا قادة كانوا ملء السمع والبصر، ثم نالتهم الفتنة فنُكسوا وانقلبوا على أعقابهم، فكانت فتنتهم مضرب الأمثال، وشيئاً يدعو للبحث والاستقصاء والتساؤل: كيف يمكن لمثل هؤلاء أن يصيروا هكذا من بعد ما كانوا كذلك؟!
الفتنة لا تؤمن على حيّ، ولقد رأينا بأعيننا قادة كانوا ملء السمع والبصر، ثم نالتهم الفتنة فنُكسوا وانقلبوا على أعقابهم، فكانت فتنتهم مضرب الأمثال
موضع الثقة إذن في أنه لا طريق لخدمة هذا الدين كما ينبغي إلا بجماعية وتنظيمية تستوعب القدرات وتوجهها وتنسّقها، ولا سبيل لهذه الجماعية إلا بقيادة منتخبة تقود المسير، على أن تسيّر الجموع بسير قادتهم، وأن لا تكون القيادة إلا بشورى فيما بينها، فإذا ما أخذت القيادة قراراً أو توجهاً بشورى، فلا خيار للأفراد حينها إلا الثقة في أنه لا سبيل إلا ذلك، حتى لو أدى ذلك لاختيار المفضول في وجود الأفضل، وحتى لو أدى ذلك للخطأ، على أن لا يكون الخطأ خطأ واضحاً من البداية، وعلى أن تستفيد الحركة من أخطائها، فتتنبه من بعد ذلك؛ لئلا تلدغ مرتين، وإن لدغت مرتين فلئلا تلدغ ثلاثاً!.
ثم يجب أن تكون المراجعة والمحاسبة للقيادة حيناً بعد حين، وليس أفسد على أية قيادة مهما كانت من أن تسير وراءها جموع تسبح بحمدها وتثق فيها ثقة عمياء ، فتسير وراءها أياماً وليالي وسنين، فلا تسأل: لم سرنا؟، وإلى أين نسير؟، وأي طريق هذا الذي سرنا فيه؟، وهل من رجوع وعودة؟.