بنو إسرائيل مضرب الأمثال في سوء الاتباع والالتزام وسرعة الانتكاس الخلقي والديني، وعندما يمعن الناظر في سيرتهم يتعجب لتيههم وضياعهم وإعراضهم عن جادة الطريق مع وجود من يأخذ بأيديهم ويثبت خطأهم، ويصحح مسارهم عند كل عثرة، وليس برجل واحد إنما رجلين، لا كأي الرجال إنما هم أنبياء الله المصطفين الأخيار من ضمن سلسلة النبوة التي اختصت ببني إسرائيل، الوحي بين ظهرانيهم ورغم ذلك تتعثر الخطى لتنحدر في منحدر سحيق نحو الوثنية والجاهلية العتيدة المستترة في أعماقهم فتقودهم لاتخاذ آلهة توافق هوى طباعهم المنحرفة ليعبدوا العجل من دون الله وهم الذين سبق وأن استبدلوا الأدنى بالذي هو خير، انقادوا لهواهم وما يوافق أمزجتهم المعتلة مع أنّ منارة النبوة تحذرهم من سوء العاقبة وتدفع بهم للإنابة للنهج القويم فينتصر داعي الهوى في نفوسهم على صوت الحق الذي يصدح بهم.
قصة بني إسرائيل يذكرها القرآن ليعتبر من كان له أدنى حياة في قلبه وبصيص نور في عقله، فيدرك المتأمل المعتبر على مر الزمان والدهور أي مصير يتربص بكل من يتخذ له عجلاً يعبده من دون الله أو وثناً، والأوثان والعجول أيضًا تتغير بمسير الزمن وتطوره بشكل يناسب التطور الذي تحياه الأمم والشعوب، ومن سنن الله أن تتعرض الأمة أفرادًا وجماعات لابتلاءات تتمايز من خلالها الصفوف والنفوس وليستخلص الله لنفسه صفوة البشرية فيكونون دائمًا وأبدًا وفي جميع أحوالهم وحالاتهم سكناتهم وحركاتهم مخلَصين لله تنتظم أنفاسهم وخفقات قلوبهم ونبضها حيث مراد الله ومشيئته، وفي دروب الحياة تتنوع الابتلاءات وتختلف من شخص لآخر كاختلاف ردود الفعل في استقبالها والتعامل معها.
الأوثان والعجول تتغير بمسير الزمن وتطوره بشكل يناسب التطور الذي تحياه الأمم والشعوب
وتتعرض الأمة لابتلاءات ليظهر أي ضمير يحمله الأفراد بين جنبات نفوسهم، فيبتليهم في ولائهم وبرائهم كما يبتليهم في أمراض أجسادهم، فمن دون هذه الابتلاءات الكل مع الله ولله لكن هذه المواقف هي الامتحان الذي يتضح به الكاذب من الصادق والمنافق، فإذا ما عرض فكر الإنسان وقلبه وشعوره على المحك يظهر المكنون في صدره وحقيقة الإنسان في نفسه، أهو إنسان ينطبق عليه قوله جل شأنه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، أم أنه واقع يترجم قوله تعالى: {إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:آية22]، فيصبح انعكاسًا بحياته وفكره وشعوره للجاهلية الأولى ويكشف لنا عن معبودات جديدة مستترة بنفسه تمامًا كعجل بني إسرائيل ولكن بحلة جديدة وثوب عصري حضاري، وتنبعث العصبية الجاهلية من جديد في قلوبنا لتتجسد واقعًا حيًا في حياتنا لتصبح هي المحرك الأساس لنا فهي الدافع إن أقدمنا على أمر وهي الرادع إن انتهينا عن أمر، ومع أول اختبار عملي على أرض الواقع في أحداث حياتنا نضرب بعرض الحائط ما كنا نتشدق به في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا وحلقات علومنا قول الصادق الأمين: "دعوها فإنها منتنة" (رواه ابن حبان)، فعند أول اختبار عملي تنتصر دعوى الجاهلية فينا على صوت الحق الصادح والخالد فينا {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:آية10] الأساس المتين والرابطة العتيدة التي جاء النبي الكريم ليقرها ويعلي من شأنها لتفوق رابطة الدم والنسب.
تنبعث العصبية الجاهلية من جديد في قلوبنا لتتجسد واقعًا حيًا في حياتنا لتصبح هي المحرك الأساس لنا فهي الدافع إن أقدمنا على أمر وهي الرادع إن انتهينا عن أمر
نعم، تُبتلى الأمة اليوم بأشكال مختلفة من الابتلاءات ومنها على سبيل المثال لا الحصر صناديق الاقتراع لتمارس حريتها باستخراج المعبود الجديد المستتر في أعماقها تمامًا كما هو عجل بني إسرائيل، فيتجاوز الناس ويعرضون عما حفظوه وتعلموه من نصوص نورانية من كلام الوحي بشقيه الكتاب والسنة ليقدموا لنا جاهلية جديدة من الانتصار للقبيلة والعشيرة، على أبوابها دعاة لجهنم ولكن بحلة علماء الدين ورجالاته، فتسقط المجتمعات في أبشع سقطات الجاهلية فيستوي بذلك المثقف والأمي العالم والجاهل الصغير والكبير، وقد ركن أصحاب العلم والفهم علومهم وأفهامهم -إلا من رحم الله- على جنب ليسلموا زمام أمورهم لمعبودهم الجديد المتمثل بالعصبية الجاهلية المقيتة، وقد حجبت عن أفهامنا معاني النور الساطع قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:آية71]، ومن ثم علينا أن نتجرع العقوبة التي جاءت ببني إسرائيل إثر عبادتهم العجل تيه في الصحراء أذاقهم مرارة المعصية وذل عدم الاتباع والالتزام بما أمر الله ولكن التيه الذي نتجرع غصصه تيه بحلة جديدة ما زلنا نعاني آلامه وندفع ضريبته غالية من دمائنا وأعراضنا وحرياتنا.
تُبتلى الأمة اليوم بأشكال مختلفة من الابتلاءات ومنها على سبيل المثال لا الحصر صناديق الاقتراع لتمارس حريتها باستخراج المعبود الجديد المستتر في أعماقها تمامًا كما هو عجل بني إسرائيل
أما آن للأمة أن تدرك حقيقة الدين الذي رفع بلالاً وسلمان الفارسي وصهيب الرومي ووضع شأن أبي جهل وأبي طالب، أما آن لنا أن ندعها إذعانًا منا لرسول الله وتصديقًا لقوله فهي منتنة؟! وأن نتيقن قوله تعالى: (الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:آية67]، أم تراه إلى متى سنظل ندفع ثمن الجاهلية التي تأبى أقوامنا أن تحياها وتتخذها آلهة جديدة تعبد من دون الله؟!
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.