تقف الحركة الإسلامية في الوقت الراهن، أمام الكثير من المتغيرات التي فرضت التغيير في أكثر من اتجاه، بما في ذلك المحتوى التربوي والأطر الحركية، وغير ذلك من الأقنية التي تشكل فيما بينها المجموع الذي يُطلق عليه مصطلح "الحركة الإسلامية"، بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية، وغير ذلك.
وتعترض عمليات التغيير المطلوب الكثير من المصاعب والعوائق، من بينها ما هو آتٍ من الخارج، أي من خارج الحركة نفسها، من البيئة المحلية، والإقليمية والدولية، التي تتحرك في سياقها، أو من داخلها، وهو هذا هو الأهم؛ فلو تعطلت السيارة؛ لن يُجدي أي شيء أن يكون الطريق ممهدًا.
ومن بين أهم هذه المعوقات الداخلية، عدم قابلية الكثير من الأطر الحركية لمبدأ التغيير الداخلي، وعدم تمتعها بالمرونة اللازمة لقبول المتغيرات الراهنة، على المستوى النفسي أولاً، لإمكان قبولها على المستوى الواقعي التطبيقي، من خلال الحِراك على الأرض.
تعترض عمليات التغيير المطلوب الكثير من المصاعب والعوائق، من بينها ما هو آتٍ من الخارج، أي من خارج الحركة نفسها، من البيئة المحلية، والإقليمية والدولية، التي تتحرك في سياقها، أو من داخلها
ويعود ذلك بالأساس إلى خطأ أو قصور في برامج التنشئة والتلقين التربوي؛ حيث يتناقض ذلك في أبسط معانيه، مع طبيعة المجتمع المسلم الأول، والكيفية التي تعامل بها مع المستجدات التي طرأت عليه بعد البعثة، منذ مرحلة الاستضعاف في مكة المكرمة، وصولاً إلى التمكين والدولة في المدينة، ثم السيطرة والسيادة، بفتح مكة.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنه كان من المدهش حقيقة أن تتمتع الجماعة المسلمة الأولى، بكل هذه الدرجة من المرونة التي يخبرنا بها التاريخ؛ حيث إنها في النهاية من جذور ذات طبيعة بدوية، تتسم بالخشونة في التعامل مع الظواهر، والتحفظ الشديد بطبيعتها، وعدم إمكانية القبول السهل، بالحياة في مجتمعات أخرى، تختلف عن المجتمع الأم الذي نشأت وعاشت فيه، حتى ولو كانت هذه المجتمعات الأخرى، عربية صرفة مثلها.
إلا أن المسلمين الأوائل عاشوا حتى في مجتمعات مختلفة عنهم في اللغة والانتماء القومي والديانة، كما في حالة الهجرة الأولى، إلى الحبشة، ووصل بهم مرونة الحال، إلى درجة أن سيدنا جعفر بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، وهو الذي كان أحد سادات قومه، قد استطاع أن يعيش عشر سنوات في الحبشة، كان خلالها أول سفير للإسلام في هذه الأرض.
بل إن هذه المرونة من سمات القرآن الكريم نفسه، الذي هو كلام الله تعالى القديم، أنزله على صدر نبيه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ليكون هدىً ورحمة للعالمين.
فهناك في العلوم القرآنية، باب الناسخ والمنسوخ؛ حيث هناك آيات نزلت في فترة من الفترات نَسَخَتْ آيات أخرى أقدم، مراعاة لتبدل الظروف، وهناك من المنسوخ ما أنساه الله تعالى لنبيه "صلَّى الله عليه وسلَّم"، لحكمة بالغة منه عز وجل، وهناك ما أبقاه سبحانه، في القرآن الكريم لحكمة أخرى بالغة، من بينها تعليمنا كمسلمين التدرُّج والمرونة وفق مقتضى الحال، وأن هذا الأمر حتى الله تعالى ألزم نفسه به، بالرغم من سابقة علمه بالظروف القائمة، وطلاقة قدرته بتكييفها بالشكل الذي لا يتطلب تغيير الأحكام في القرآن الكريم.
وبالنظر إلى حال الجماعة المسلمة الأولى منذ البعثة وحتى وفاة النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ فإننا سوف نجد أن التدرج والمرونة كانا سمةً أساسية، وليست فرعية، في الاجتماع السياسي لها.
فلو تأملنا المرحلة المَكِّية؛ فإننا سوف نقف على مجموعة من السمات المختلفة تمام الاختلاف عنها في مرحلة الهجرة الأولى إلى الحبشة، عنها في مرحلة دولة المدينة، وحتى هذه المرحلة، مختلفة عن مرحلة الدولة بعد فتح مكة المكرمة، سواء فيما يتعلق بالعبادة والعلاقة مع الآخر، وكذلك طريقة إدارة شؤون الكيان المسلم الذي انتقل من مستوى "جماعة مستضعَفَة" إلى مستوى "الدولة" ثم "الدولة ذات السيادة في إقليمها.
وفي كل مرحلة من هذه المراحل؛ فإن المسلمين قدموا من الاستجابة الجيدة، الكثير مما يحوي دروسًا مستفادة للحركة الإسلامية في الوقت الراهن.
ومن بين هذه الدروس؛ كيف قبلوا على أنفسهم، وهم أصحاب العزة، وكثيرٌ منهم كان من سادات قومه، أن يتخفُّوا بعباداتهم، وكيف قبلوا الحياة في مجتمعات غريبة عنهم؛ قدموا فيها من النموذج الإنساني، ما جعل النجاشي نفسه يقبل الإسلام دينًا، كما يقول بعض المؤرخين.
ثم كيف أصبح هؤلاء قادة دولة وجيوش فاتحة بعد إقامة الدولة، وكيف أداروا وجهات نظهم المختلفة مع النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، كقائد للدولة، وكيف تمتعوا بروح منفتحة، مكنتهم من تجاوز محنة مكة الأولى، وقبول التعايش مع من آذوهم واضطهدوهم في البداية، وطردوهم من ديارهم، وآمنوا بأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وكيف تعايشوا مع اليهود والمشركين في المدينة، برغم ما يجدونه مكتوبًا عندهم في القرآن الكريم من أنهم – أي المشركين واليهود – هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
ولعل في موقف النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، من المنافقين في المدينة والبادين في الأعراب من حولها، الكثير من الدروس في المرونة والواقعية السياسية، من دون تفريط في ثوابت الدين والعقيدة بطبيعة الحال.
لعل في موقف النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، من المنافقين في المدينة والبادين في الأعراب من حولها، الكثير من الدروس في المرونة والواقعية السياسية، من دون تفريط في ثوابت الدين والعقيدة بطبيعة الحال
ولو درسنا تجربة دولة المدينة من منظور علم الاجتماع السياسي، ولو وقفنا عند المحطات التي سبقت تأسيسها؛ فإننا سوف نقف على أنموذج طيب للغاية في المرونة والتخطيط السياسي الذكي الذي مكَّن بضعًا وسبعين نفرًا من تأسيس دولة كاملة، كانت هي أول شكل من أشكال العمران السياسي المتطور في شبه الجزيرة العربية في بضعة سنوات قليلة.
فكيف أدار المسلمون عملية الهجرة، وبناء التحالفات مع القوى النافذة، وكيف تعاملوا مع المنافقين من أصحاب السطوة والسلطان، وكيف كان التعامل مع المعاهدين من أهل الكتاب، وكيف كان التعامل مع مَن نَقَض العهد منهم، وكيف كانت الدعوة تُدار بشكل سياسي بحت، من مركز الدولة في المدينة، وصولاً إلى أطراف شبه الجزيرة العربية وخارجها، في الأمصار المجاورة، عندما خاطب قائد الدولة في ذلك الوقت؛ الرسول الكريم "عليه الصلاة والسلام"، رموز الأمم المحيطين به، داعيًا إياهم للدخول في دين الله؛ الإسلام.
وفي صلح الحديبية؛ سوف نجد الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" مفاوِضًا ومحادثًا سياسيًّا؛ حيث فاوض أهل مكة من المشركين، وفاوض قومه وجماعة المسلمين على الاتفاق الذي توصل إليه مع أهل مكة المكرمة.
ومن نافلة القول، التأكيد على أن الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" في ذلك الوقت، وفي كل تلك المواقف، لم يكن ينطق عن الهوى، بينما في كل موقف منها، كان الأمر يتعلق بصلب العقيدة، ومستقبل الدعوة.
هذه الخلفية التي تؤكد على أن الوحي الألهي والتوجيه الإلهي كانا خلف قرارات الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" في حينها؛ يجعلنا نقيس الأمور بمقياس ثابت؛ أن هذه القرارات وطريقة أخذها وكذا؛ هي الأساس الذي يُقاس عليه، وبالتالي؛ فقد وجب – بالمعنى الشرعي للوجوب الذي يحمل الإلزام – أن نلتزم بها، ونعمل على أن نختار منها، ما يتفق مع الحالة الراهنة، وكل موقف تواجهه الحركة الإسلامية.