رغم توالي النكبات على أمتنا إلا أن نكبة فلسطين يبقى لها طعم خاص، فبمجرد اقتراب منتصف أيار (مايو) لا نملك إلا أن نحسّ بمرارةٍ وغصَّةٍ في حلوقنا وأسىً وحسرةً تحرق قلوبنا.. وتتراءى لنا أرضنا المباركة باكيةً حزينةً متشحةً بالسَّواد، فتخفق القلوب وتدمع العيون على أرض التِّين والزيتون.. وتعود ذكرى النَّكبة لنا بظلالها الكئيبة لتذكِّرنا من جديد بحقٍّ أضعناه وتاريخٍ مخزٍ كتبناه بتفريطنا بأرض الأنبياء والشهداء وسكوتنا على بقاء أحفاد حيي بن أخطب وشاس بن قيس يسرحون ويمرحون في أرض الإسراء ومهوى قلوب الأتقياء.
كلَّما حلَّت ذكراها الثَّقيلة على نفوسنا لا نملك إلا أن نتذكَّر كلماتٍ ورثناها عن آبائنا الذين عاشوا في ربوع فلسطين -الجنَّة التي أخرجنا منها- كقولهم: "أيَّار.. توت ومشمش وخيار" وقولهم: "أيَّار شهر الرَّياحين والأزهار".
ولأننا جئنا في جيل ما بعد النَّكبة فكم من أيّار مرَّ علينا لم نر فيه إلا الشَّوك والحنظل، ورياح السَّموم تسفي غبارها في وجوهنا ونحن نتجرَّع آلام الغربة ونعيش حياة التشرُّد والذلِّ بعيداً عن الوطن وأحضانه الدافئة.
في ذكرى النَّكبة تتجدَّد آلامنا دون أن نفقد الأمل الذي غرسه آباؤنا في صدورنا، وننقشه بدَورنا في قلوب أطفالنا، نرسم لهم فيه خارطة فلسطين من النَّهر إلى البحر، ومن رأس النَّاقورة حتى أمّ الرشراش.. خارطةً لا لبس فيها ولا غموض مطرَّزة بدماء زكيّة يزهو بلونها الشَّفق.
في دفتر الذكريات الخاص بي، امتزجت صوراً رماديَّةً حزينةً عن النَّكبة بأخرى زاهية مشرقة سعيدة. إنَّه ذلك الدفتر الذي وثَّقت فيه قصصاً قصَّتها والدتي عليَّ لأنقلها لأبنائي وأحفادي من بعدي.
كانت الفاجعة أعظم من أن تستوعبها العقول، تسارعت معها الأحداث بشكل "دراماتيكي" لم يتوقعه أحد، هزمت فيه سبعة جيوش عربية ملأ صراخها عنان السماء وأوهمت عنترياتها جموع الآمنين في بيوتهم وقراهم أنهم يركنون إلى ركن شديد، وأنَّ عصابات اليهود ليسوا سوى أكلة جزور لن تصمد أمام جيش "جلوب باشا" (أبو حنيك) ومن معه من الجيوش اليعربية فواق ناقة! غير أنَّ العكس هو الذي حدث تماماً إذ تساقطت قرى ومدن فلسطين بأيدي المحتلين كما أحجار الدومينو وسط ذهول أهلها وخيبة آمالهم بالذين عقدوا عليهم الآمال.
كان والدي حينها يقارع المحتلين وثلّة من رفقائه في مدينة بئر السبع التي عمل فيها مدرساً قبيل النكبة النكباء، وكانوا في مدٍّ وإقدام في مقابل جزرٍ وتقهقرٍ وإحجام لعصابات المحتلين، غير أن الطامَّة والكارثة أنَّ النَّاطق باسم الجيش المصري أعلن عن سقوط مدينة بئر السَّبع بأيدي العصابات الصهيونيَّة في وقتٍ كان المدافعون عنها يلاحقون فلولهم ويكبِّدونهم الخسائر الفادحة بالأرواح والمعدَّات!!
بقيت الغصَّة والألم والحسرة في حلق والدي الذي أقسم أن يستبقي شهادته أمام محكمة العدل الإلهية بأن بئر السَّبع قد أعلن عن سقوطها قبل أربعة أيام كاملة من تسليمها للصهاينة، وأن الجيش المصري الذي كان يفترض أن يدافع عن فلسطين، لم يكتف بالنُّكوص والتقهقر أمام عصابات اليهود وتسليم الأرض المباركة لهم، بل إنَّه ارتكب جريمةً أخرى بانتزاع الأسلحة من أيدي المقاومين الفلسطينيين والإعلان عن عقوبات صارمة بحقّ من تضبط معه أي قطعة سلاح تصل إلى حد الاعتقال والترحيل إلى القاهرة ليمضي ستة أشهرٍ في سجن "أبو زعبل" أو "ليمان طرة" مع شتائم مقذعة هي أشدّ من سياطهم اللاذعة تتهمه بأنه باع أرضه لليهود!!
عاد والدي أسيفاً كسيفاً إلى بلدته غزة ليجدها قد تحوَّلت إلى مأوىً كبيرٍ للَّاجئين الذين فرّوا من المجازر المروعة التي رافقت تلك الحقبة السوداء من تاريخ أمَّتنا، ما جعل شواطئ غزة تمتلئ بخيام اللاجئين المشرَّدين من حيفا ويافا وعسقلان وسائر مدن وبلدات فلسطين الذَّبيحة.
تحركت مشاعره لهم وهو الشاعر الذي ملأ فضاء فلسطين حباً وهياماً بأرضها وبحرها وسمائها وأهلها، فبكاهم بكاءً مرّاً في أشعاره الحزينة، غير أنَّه ورفقاء القلم والسلاح لم يركنوا إلى الدموع يسكبوها على أوتاد الخيام فقد أقاموا مدارس من خيامٍ لأطفال اللاجئين كي لا يفترسهم "غول" الجهل، الأشد فتكاً من أي عدوٍّ متربص. وكان المقابل الذي تقاضاه أولئك المدرسين الذين واصلوا ليلهم بنهارهم متنقلين من مخيمٍ إلى مخيم عبارة عن معلبات فول و"خيشة" بصل، كان يجتهد الوالد في توزيعها على المحتاجين القابعين في تلك الخيام التي كثيراً ما كان يتلمس احتياجاتهم للتقليل من آثار نكبتهم وفاجعتهم، ومن ذلك أنَّه مرّ ذات ليلة بخيمة، وإذا بها امرأة قد أتاها المخاض ولا من يعتني بها أو مَن يقوم بتوليدها، فما كان منه إلا أن أحضر لها قابلةً ووفَّر لها كل ما تحتاجه من مستلزمات، ولما اطمأن أن المولود قد خرج إلى الدنيا سليماً معافى همّ بالانصراف، فاستوقفه أصحاب الخيمة، وسألوه عن اسمه ليطلقوه على مولودهم كشيء من ردِّ الجميل له!!
لم يقف الأمر عند ذلك فممَّا تعتزُّ والدتي به وتسعد بالحديث عنه، قصة زواجها الميمون من والدي -رحمه الله- وعلاقته بما لعبه والدي من دورٍ في إغاثة اللاجئين، فحيال كارثةٍ هائلةٍ ضاقت الحيل عن معالجتها، ما كان منه إلا أن ابتكر وسيلة للتخفيف من معاناة أولئك اللاجئين، وذلك بتبنِّي ما أسماه مشروع "رغيف خبزٍ لكل لاجئ"، من خلال المرور على أفران غزَّة فرناً فرناً والطلب منهم تخصيص رغيف من كل (طبلية)، الأمر الذي استحسنه الخبازين وأثنوا عليه، فكان يمرّ على تلك المخابز ويجمع منهم الخبز ثم يوزعه على اللاجئين. وكان أن لمحه جدِّي التاجر عيسى البدري رحمه الله من متجره ذات يومٍ وهو ينتظر في حرِّ الشمس انتهاء أحد الأفران من تجهيز أرغفة اللاجئين، فعرض عليه الانتظار في الظلّ داخل محله.. وكأنِّي به يحاكي ما جاءت به آية سورة القصص عن موسى عليه السلام وقد أوى إلى الظلِّ بعد أن عمل المعروف وسقى للضَّعيفتين وهو يتمتم بالدعاء..
كانت فرصةً سانحةً سأله فيها جدِّي عن الذي كان يفعله وعن اسمه وأهله، فلمَّا قصَّ عليه القصص، ما زاده ذلك إلا إعجاباً وافتخاراً به، ودارت بعدها الأيام ليأتي مَن ينصح والدي بالتَّقدم لخطبة ابنة ذلك التاجر الغزيّ البدري، وما هو إلا أن طلب يدها فما تردَّد والدها لحظةً بالموافقة، إكراماً لما قام به والدي من عملٍ خيريٍّ إغاثيٍّ فريد بحق اللاجئين.
ومع تجدّد ذكرى النَّكبة لا يزيدنا تعاقب الليل والنّهار وتوالي الشُّهور والأعوام إلا تمسُّكاً بحقِّنا المغتصب، ويقيناً بوعد الله المرتَقب. نسعى ونمضي صوبَ هدفٍ جامعٍ لكل المسلمين، ألا وهو تحرير فلسطين كاملة وتطهيرها من دنس الغزاة المحتلين، لا ننخدع بسراب الطريق وأوهامه، ولا تخطئ قلوبنا وأرواحنا وعقولنا خارطة فلسطين مهما تعدَّدت في المسير الخرائط المزيَّفة لها.