في جولة من جولات الصراع التاريخي بين الحق والباطل، يقف أهل الحق مشدوهين متسائلين (متى نصر الله؟).
سؤال لا يدينهم، فقد سأله أسلافهم من أهل الحق في أزمنتهم السابقة، حتى أنه قد سأله أنبياؤهم المرسلون {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله}، [البقرة: 214].
ذلك نصر الله، يتأخر في أحيان كثيرة حتى تذهب بالعقول الظنون ويتساءل المتسائلون (متى نصر الله؟).
ليس لزاماً على الله أن ينزل نصره على أهل الحق في كل جولاتهم مع أهل الباطل، بل ينصرهم الله في جولات ويمسك عنهم نصره في جولات أخرى، وفي تاريخنا الإسلامي وفي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما يؤكد ذلك.
الأمر أبعد من انتصار عاجل يسوقه الله لأوليائه في كل جولاتهم، فيغدون إلى كل معركة من معاركهم ونصر الله في جيوبهم، لا ينظرون مع ذلك لحسن تخطيط ولا لأخذ حذر ولا لترتيب صفوف ولا لإعداد قوة، ولا يحتملون أن يصيبهم لأواء ولا بأساء في سبيل الله.
الأمر أبعد من ذلك، وحكمة الله وحسن تقديره أكبر من ذلك.
ليس لزاماً على الله أن ينزل نصره على أهل الحق في كل جولاتهم مع أهل الباطل، بل ينصرهم الله في جولات ويمسك عنهم نصره في جولات أخرى
لكن مع البحث والتقصي ومحاولة الحصر نحاول جاهدين هنا أن نجيب عن سؤالنا الملح (لماذا يتأخر النصر؟).
في ظني أن #النصر يتأخر عن أهل الحق للأسباب التالية:
- عندما يكون الصف المجاهد لا يستحق النصر لمخالفاته في وقت جهاده في ساحة معركته، ومثال ذلك ما كان في غزوة أحد، فقد أمسك الله النصر عن أهل الحق لما خالفوا أمر نبيهم في ساحة المعركة وهرعوا إلى غنائمهم يتنافسونها.
فإذا خرج الصف المجاهد مخلصاً ثابتاً صابراً، ثم تأتيه المعاصي والمخالفات في ساحة المعركة، فإن الله يمسك عنه النصر، فالله لا يقبل إلا ما كان طيباً طاهراً خالصاً من مبتداه إلى منتهاه.
- عندما يكون الصف المجاهد مستحقاً للنصر في ساحة المعركة بثباته وصبره وإخلاصه واستقامته، ولكنه لا يستحق هذا النصر بواقعه الحياتي المعاش.
فهو قبل معركته مشوه بالكثير من الذنوب والمخالفات والتشتت والتنافس والتناحر والتعادي، وبعد معركته صائر إلى ذلك أيضاً. ومن هنا يمسك الله النصر، فنظرة الله واطلاعه أبعد من مشهد المعركة، فإن الله يرى من قبل ومن بعد كما يرى الحال سواء بسواء.
- عندما يكون الصف المجاهد مستحقاً للنصر بحاله في وقت معركته وساحتها، ومستحقاً للنصر بحاله وشأنه المعاش قبل وبعد معركته، ولكن الأمة في العموم لا تستحق هذا النصر بحالها وشأنها.
فنصر الله عز وجل للصف المجاهد هو في الحقيقة نصر للأمة كلها ، وإيذان من الله لهذه الأمة بأن يظللها شرعه، وبأن ترفرف عليها حمائم العزة والكرامة، وهذا أمر لا يجعله الله جزاء للصف المجاهد فقط، بل هو جزاء ومصير للأمة كلها.وقد يرى الله أن الأمة بعمومها غير مؤهلة لهذا النصر وغير مستحقة له، ويكون على الصف المجاهد عندئذ أن يجعل أكبر شأنه في جهاده وفعله هو في إصلاح هذه الأمة وتغيير واقعها، مع مجابهته ومجاهدته للباطل والظلم ما أمكن.
قد يرى الله أن الأمة بعمومها غير مؤهلة لهذا النصر، ويكون على الصف المجاهد عندئذ أن يجعل أكبر شأنه في جهاده هو في إصلاح الأمة وتغيير واقعها، مع مجابهته للباطل
- عندما يكون الصف المجاهد مستحقاً للنصر بحاله في وقت معركته، وبحاله في واقعه قبل وبعد معركته، وتكون الأمة مع ذلك مستحقة للنصر ومؤهلة له.
غير أن الله لا يأذن بالنصر لحكمة هو يعلمها ولا نعلمها، ويؤخر الله النصر ساعتها لزمان قد أذن به، سواء كان هذا الزمان بعيداً أو قريباً.
فالله عز وجل يرى ما لا نراه ويعلم ما لا نعلمه، ويقدر ويحكم بما ندرك حكمته وبما لا نستطيع لبعضه إدراكاً.
نحن في النهاية عبيده نسير كما أراد لنا وكما شاء، نفعل ما يريد ابتغاء رضاه وثوابه، ولقد وعدنا الله بالثواب الثابت في كل أفعالنا وجهادنا، ولم يعدنا بالنصر اللازم في كل جولاتنا ومعاركنا .
إنما هو الثواب لا غير، والنصر من عند الله وحده يجعله كيف يشاء ومتى يشاء وفيمن يشاء، ولا يجب عليه فيه شيء.
- عندما يكون الحال كله حال نصر، وقد أذن الله به، لكنه يؤخره إلى آخر المعركة حتى تنقطع بالناس الأسباب وتضيق القلوب والأنفس وتتمحص الصفوف ويظن الناس بالله الظنون، ويقول المؤمنون متى نصر الله، فيكون ساعتها نصر الله الكبير.
وفي الختام لا بد أن نؤكد على أن القضية بين الله وبين عباده المؤمنين أهل الحق ليست قضية نصر وتمكين، ولكنها قضية عمل وإخلاص وثواب، سواء أوصل هذا العمل مع الإخلاص فيه للنصر أو لم يوصل، فقد وعدنا الله بالثواب على كل العمل، ولم يعدنا بالنصر في كل المعارك.