يقول الله تعالى في سُورة "التَّوْبة": {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(41)}.. نزلت هذه الآية القرآنية في العام التاسع للهجرة النبوية الشريفة، في واحدة من أهم المواقف التي مرت به الدولة الإسلامية الأولى، وهي غزوة "تبوك".
فتُعتبر هذه الغزوة والدروس المستفادة منها، من بين أهم الغزوات التي تكاد أن تنطبق على الظروف الراهنة التي تمر بها الحركة الإسلامية، في ظل حجم الضغوط التي مورست عليها في السنوات الأخيرة التي تلت ثورات الربيع العربي، منذ أواخر العام 2010م، وحتى وقتنا الراهن.
وهذا القول ليس من قبيل المبالغة في شيء؛ فلعل حكمة الله تعالى شاءت أن تكون هذه الحادثة جامعة لأمور عديدة، وكأنه أراد عز وجل أن تكون وثيقة واضحة ومحددة أمام أجيال الأمة التالية، على سابق علمه بما سوف تمر به.
ويدعم هذا التصور أمران، الأول هو أنها جاءت في مرحلة متأخرة من سنوات البعثة؛ حيث هي – وفق إجماع المؤرخين المسلمين – آخر غزوات النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، والثاني، هو ما ارتبط بها من أمور، وكأنها حُشدتْ حشدًا بشكل مقصود ممَّن بيده الأمر، ويرتب الأقدار؛ رب العزة سبحانه.
ومن بين أهم الأمور التي ترتبط بهذه الغزوة، ولها وجودها في تاريخنا المعاصر، قضية المعوِّقين و#المنافقين وموقفهم من الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" ودولة الإسلام الوليدة، وقضية موقف القوى الكبرى في ذلك الوقت، من الدولة الإسلامية الوليدة، والتطابق الذي حصل بين الموقفَيْن.
من أهم الأمور التي ترتبط بهذه الغزوة، قضية المنافقين وموقفهم من الرسول عليه السلام ودولة الإسلام الوليدة، وموقف القوى الكبرى آنذلك، والتطابق الذي حصل بين الموقفَيْن
وبالرغم من أن التاريخ لا يخبرنا بمعلومة يقينية حول تعاون رسمي بين الطرفَيْن كما يحدث الآن؛ إلا أننا أمام شواهد عدة تقول بذلك.
وأول هذه الشواهد، الامتداد القبلي العربي في مناطق سيطرة الدولة الرومانية في بلاد الشام في ذلك الحين، مثل إمارة الغساسنة، وهؤلاء لهم صلة أواصر مع قبائل شبه الجزيرة العربية، بما فيها القبائل الموجودة في المدينة المنورة وما حولها، والمناطق التي تمتد من المدينة، وحتى مناطق التماس بين الدولة الإسلامية والدولة الرومانية.
وهناك بعض المصادر التاريخية التي أشارت إلى حدوث اتصال ما بين هذه المجموعات وبين امتداداتهم المقيمين في مناطق سيطرة الدولة الإسلامية الأولى.
وهو ما يبدو في إصرار الحملة التي بدأها الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، على تطهير المناطق الواقعة على مشارف الدولة الجديدة من أعوان الروم، قبل أن يحارب الروم أنفسهم.
وبالفعل؛ فإن أهم نتيجة تحققت من هذه الغزوة، كانت تطهير هذه الأماكن من المجموعات التابعة للدولة الرومانية، وتتعاون معها في هز الاستقرار على الأطراف الشمالية الهشة للدولة الإسلامية الوليدة.
فالغزوة انتهت من دون حرب بين المسلمين والروم؛ حيث فرَّ الجيش الروماني إلى الشمال من منطقة "عين “تبوك”" التي أمر النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" بأن يعسكر جيش المسلمين فيها، بعد وضوح عدم قدرة الرومان على كسر شوكة جيش المسلمين؛ حيث كانت المعادلة بين الجيشَيْن ثلاثين ألف مقاتل مسلم مقابل أربعين ألفًا فقط من الروم، وهي نسبة لا تضمن أي انتصار للروم وفق كل القواعد العسكرية المتعارف عليها في ذلك الوقت.
في المقابل؛ فرض الجيش الإسلامي في حينه سيطرته على مواقع بعض الإمارات المسيحية العربية، في أطراف شبه الجزيرة العربية، مثل إمارة "دومة الجندل"، وإمارة "إيلة"، وهي منطقة العقبة حاليًا.
الدرس الأهم الواجب كذلك استيعابه من هذه الغزوة، هو قضية #الصبر مع الشدة.
فمن بين أهم مسمَّيات هذه الغزوة، غزوة "العُسرة"، بجانب أنها تُسمَّى بـ"الفاضحة" كذلك للاعتبارات السابقة.
فالغزوة جاءت في وقت حر وقحط شديدَيْن، ولم يكن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بقادر مع جماعة المسلمين الأوائل على تجهيز الجيش، فكان موقف عثمان بن عفَّان "رضي اللهُ عنه" الذي يضعنا في صورة المفهوم الحقيقي للتضحية والبذل لأجل الدين.
ولكن قبل عرض موقف عثمان؛ فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن الشِّدَّة التي خرج فيها من المسلمين جيشٌ قوامه ثلاثين ألف رجل، يعني أن المسلمين كانوا على أكمل نسق تربوي وعقائدي فيما يخص مفهوم الجهاد.
فعلى أبسط تقدير؛ فإن الظروف التي أحاطت بالمسلمين في حينه، لم تمنع من تجهيز جيش يقترب في عديده من جيش الدولة الرومانية نفسها، التي كانت القطب الأقوى في العالم في حينه.
ولم تتوقف المصاعب التي واجهت المسلمين في حينه على ذلك؛ حيث إن الطريق إلى “تبوك” كان مليئًا بالمصاعب الجمَّة التي أثبتت أن الجيل الأول من الدعوة، كان يدرك حق الإدراك لمصفوفة الجهاد بكامل أركانها.
لم تتوقف المصاعب التي واجهت المسلمين في حينه على تجهيز الجيش؛ حيث إن الطريق إلى "تبوك" كان مليئًا بالمصاعب الجمَّة التي أثبتت أن الجيل الأول من الدعوة، كان يدرك حق الإدراك لمصفوفة الجهاد بكامل أركانها
ففي أثناء سير المسلمين، واجه الجيش مجاعة اضطروا معها إلى ذبح رواحلهم للأكل منها، وهو ما كان يعني أن المسلمين سوف يسيرون على أقدامهم كل هذه المسافة الطويلة، وهو ما دعا عمر بن الخطاب "رضي اللهُ عنه" إلى أن يستأذن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلم" في وقف ذلك الأمر.
كما واجه المسلمون عند معسكرهم في "تبوك"، ريحًا شديدة، حذر منها النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وطلب من الصحابة أن يحتاطوا لها مع دوابهم، ومن خالف منهم؛ فقد ألقته الريح إلى وادٍ بعيد يُدعى "طي".
ولذلك، لما صبر المسلمون على كل ذلك، كان النصر على أكبر قوة في العالم في ذلك الحين؛ حيث كُسِرت هيبة الروم التي تكرَّست في الوجدان العربي بعد غزوة "مؤتة" التي كانت من أصعب المواقف التي مر بها المسلمون؛ حيث اعتبرت انتصارًا للدولة الرومانية، وراح فيها الكثير من الصحابة الأوائل من حَفَظَة القرآن الكريم.
وكانت هذه الغزوة بالفعل بمثابة امتحانٍ وشدة على المسلمين إلى آخر نَفَس فيها؛ فبالرغم من الانتصار المتحقق؛ فإنها شهدت استشهاد صحابة كبار، كان لهم الكثير من المواقف في الدعوة منذ السنوات الأولى للبعثة النبوية، ومن بينهم، زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وعامر بن سعد، وغيرهم؛ رضوان الله تعالى عليهم جميعًا.
أسست العقيدة لدى الصحابة لروح معنوية لا تلين، قوامها الثقة في الله، ودينه، ونبيه، وعدم الالتفات إلى المعوِّقين، والجهاد المادي بالمال والراحلة، وصولاً إلى الجود بالنفس، حتى تحقق النصر
وفي الواقع؛ فإن الدروس المستفادة من كل هذه الأحداث التاريخية العظيمة التي شكَّلت العالم فيما بعد؛ لا يمكن أن يستوعبها هذا الحيِّز البسيط، ولكن يكفينا أن نتعلم من تضحيات المسلمين الأوائل، وكيف كانت حياتهم –بالفعل– عقيدة ومصفوفة جهاد، انتظمت فيها العقيدة التي أسست لروح معنوية لا تلين، قوامها الثقة في الله تعالى، وفي دينه، وفي نبيه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وعدم الالتفات إلى المعوِّقين، والجهاد المادي بالمال والراحلة وغير ذلك، وصولاً إلى الجود بالنفس، حتى تحقق النصر.
كما أنها عكست رؤية استراتيجية شديدة السداد فيما يخص كيفية تعامل القائد مع المواقف والأمور التي تتطلب حسمًا، مهما كانت الظروف القائمة، طالما أن في استمرار هذه الأمور ما يهدد الأمة، كما تم مع المنافقين الذين خرجوا مع جيش المسلمين، وفي واقعة المسجد الضرار.
كما أنها عكست في النهاية بشكل عام، كيف يعمل القائد على بناء دولة قوية، ولم يتحقق ذلك إلا من خلال العقيدة القوية، وهو الدرس الأهم فيها.