لا أحد يمكنه إنكار أهمية دراسة التاريخ؛ حيث تمثل النماذج التاريخية المختلفة، على أقل تقدير؛ مستقبل الإنسان، سواء على المستوى الفردي، أو على مستوى الجماعة البشرية، في حال مرَّ بموقف مشابه.
ودراسة #التاريخ فيها العبرة والعظة، وفيها كذلك التأمل والتدبُّر، من أجل تخطيط أفضل للمستقبل، عند التعرُّض لمواقف مماثلة.
وهو مبدأ أرساه الله تعالى في القرآن الكريم؛ حيث القصص القرآني، سواء قصص الأوَّلين أو قصص الأنبياء؛ فيه العبرة، وفيه العظة، وفيه كذلك الدرس الواجب للتعامل في المواقف المماثلة.
لذلك من أكبر الأخطاء التعامل مع المناسبات التاريخية ذات الطابع السياسي الشامل، بمجرد استدعاء الحدث فقط، لأسباب نفسية أو عاطفية أو حتى سياسية ضيقة فحسب، تتعلق بمصالح طرف أو جهة ما؛ حيث إن الأهم من ذلك هو التعامل الإيجابي مع المناسبة وذكرى الحدث.
من أكبر الأخطاء التعامل مع المناسبات التاريخية ذات الطابع السياسي الشامل، بمجرد استدعاء الحدث فقط، لأسباب نفسية أو عاطفية أو حتى سياسية ضيقة فحسب
ونقصد بالتعامل الإيجابي؛ هو الغرض الذي أسس له الله تعالى وشرع لنا لأجله قضية استدعاء التاريخ وحوادثه، على النحو المتقدِّم الإشارة إليه؛ التدبُّر وأخذ العبرة، وبالتالي، التخطيط السليم، الذي يتفادى أخطاء الماضي، ويقدم البدائل الصحيح؛ حيث كان الله تعالى قادرًا لو أراد، ألا يجعل لنا لذلك سبيلاً.
ومرد هذا الحديث هو الصورة النمطية التقليدية التي يتم كل عام التعامل بها مع مناسبات أحداث كبرى مثل نكبة فلسطين عام 1948م، واستكمال احتلال القدس في عدوان يونيو من العام 1967م، وغير ذلك.
فما يجري كل عام، هو استعادة الحدث التاريخي فقط من دون إكمال المسار المتكامل المطلوب للتعامل مع مثل هذه الحوادث الكبرى في حياة الأمم.
وهو أمر مهم في حد ذاته؛ أن يتم استدعاء حدث #النكبة أو حدث سقوط #القدس والبلدة القديمة بما فيها المسجد الأقصى في قبضة اليهود، بكل ما لذلك من أبعاد سياسية ودينية؛ حيث الحفاظ على وهج القضية والحدث في ذهنية الأجيال الجديدة، وتعريفهم بما جرى وكيف جرى.
إلا أن الوقوف عند هذه الجزئية فحسب؛ يُعتبر من فادح التقصير، بل إن البعض يرى أن مجرد الاستدعاء العاطفي للحدث التاريخي فقط، قد ساهم في تكراره؛ فصارت الأندلس أندلسيات، ومن بين هذه الأندلسيات، فلسطين التي تُعتبر الحلقة الأحدث في سلسلة "أندلسيات" المسلمين.
ويرى هؤلاء أن التعامل مع ذكرى نكبة العام 1948م بالصورة القاصرة هذه، هو ما ساعد على استكمالها في 1967م؛ حيث كان ينبغي أن تكون الذكرى الأولى لنكبة 48، حربًا جديدة، مستمرة، لانتزاع الحق الفلسطيني في أرضه، قبل أن يتمكن الكيان الصهيوني من تثبيت وجوده غير الشرعي على أرض فلسطين.
إلا أن مماحكات السياسة الضيقة، حوَّلت ذكرى النكبة إلى وسيلة للدعاية لبعض الأنظمة العربية، من دون محتوىً حقيقي لمفهوم الكفاح المسلح الذي كانت ترفعه الحركة الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين.
وبعد عملية "أوسلو" المشؤومة، تحول الاحتفال بذكرى النكبة إلى مراسم خافتة، بعد أن اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان الصهيوني ولم يحافظ على ألق الذكرى بمعناها الحقيقي؛ الذي يتضمن الاستعداد للمحطة القادمة من الصراع، سوى الحركة الإسلامية.
بعد عملية "أوسلو" المشؤومة، تحول الاحتفال بذكرى النكبة إلى مراسم خافتة، ولم يحافظ على ألق الذكرى بمعناها الحقيقي؛ الذي يتضمن الاستعداد للمحطة القادمة من الصراع، سوى الحركة الإسلامية
فالحركة الإسلامية تضع الحدث وذكراه في سياق آخر، وهو أنه "أزمة مستمرة"؛ لا حدث مضى وانتهى أمره، ويتم "الاحتفال" به لمجرد أسباب وبواعث عاطفية أو إنسانية لدى الشعب الفلسطيني.
وهذه الطريقة هي التي تكرِّس في وعي الشعوب بشكل عام، فكرة "المعركة المستمرة"، وبالتالي، الحفاظ على حالة التعبئة الشاملة، على مختلف المستويات؛ الوجدانية والمادية في الاتجاهات الموضوعية كافة، بما في ذلك استمرار حشد الطليعة التي تحمل السلاح.
ولهذه الطريقة آثار عدة مهمة، بجانب حالة التعبئة هذه.
أهم هذه الآثار، هو استمرار وجود القضية بوزنها الحقيقي على الساحة السياسية، وبنفس الأهمية، بكل ما يمثله ذلك من ضغوط على مختلف الاتجاهات.
فتحول النكبة إلى "ذكرى"، وحدث احتفالي؛ يكرِّس "شرعية" الكيان الصهيوني، من خلال تقليل الضغوط عليه وعلى المشروع الصهيوني الاستيطاني برمته، وبالتالي؛ السماح للكيان بالاستمرار وهو مطمئن في مشروعاته لاستجلاب يهود العالم، وبناء المستوطنات التي تقضم المزيد من أراضي الفلسطينيين، لهم.
وفي المصطلح الدلالي؛ أدت هذه الحالة إلى تحوُّل "فلسطين المحتلة"، إلى "فلسطين التاريخية"، وهو توصيف دقيق يؤكد المعنى السابق؛ حيث صارت #فلسطين "تاريخًا"، بينما المطلوب المحافظة عليها وعلى قضية ضياعها "واقعًا قائمًا".
كما أن استمرار النكبة والاحتلال حالةً حاضرة وحية؛ يمارس ذات الضغوط على القيادات السياسية الإقليمية والدولية.
فهذه القيادات لن تتحرك وهي تجد أصحاب القضية، وقد حولوها إلى مجرد ذكرى احتفالية فحسب، لاستعادة ذكريات قديمة، وإنما سوف تهتم وتبذل مساعٍ إذا ما أحست أن أصحاب القضية لا يزالون يتعاملون معها على أنها لا تزال حية، وسوف تظل حية، وأن عدم حلها بالشكل العادل؛ سوف يمس مصالحهم السياسية والأمنية والاقتصادية.
ولعل هذا هو أهم تحدٍّ يواجه القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية في الوقت الراهن؛ هو كيفية الحفاظ على وجود القضية نفسه، بكل ما فيه من مشتملات، وخصوصًا فيما يتعلق بمسألتي الأرض والشعب، واللتان هما صُلب القضية الفلسطينية.
فالأساس الذي نهض عليه المشروع الصهيوني، هو أن فلسطين كانت "أرضًا بلا شعب"، والاكتفاء بمجرد الاحتفال بذكرى النكبة وذكرى احتلال باقي فلسطين في العام 1967م؛ سوف يجعل بعض أصحاب القضية أنفسهم ينفضون أيديهم منها، ويقبلون بأية فُرصة تُعرض عليهم للحصول على جنسية بلد آخر.
الاكتفاء بمجرد الاحتفال بذكرى النكبة وذكرى احتلال باقي فلسطين في العام 1967م؛ سوف يجعل بعض أصحاب القضية أنفسهم ينفضون أيديهم منها، ويقبلون بأية فُرصة تُعرض عليهم للحصول على جنسية بلد آخر
وهو ما يعني – بمنتهى البساطة المحزنة – تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، حتى ولو لم يتم أخذ قرار دولي أو فلسطيني من منظمة التحرير، في شأن ملف اللاجئين.
وفي الأخير؛ فإن المطلوب في الوقت الراهن تعزيز المسار الذي تسير عليه الحركة الإسلامية التي لا تزال تتبنى نهج المقاومة؛ حيث تتحول المناسبات الخاصة بالأحداث الكبرى التي مرت بها القضية إلى أحداث حقيقية بدورها، تنتظم في سلسلة زمنية ممتدة، لا تنتهي إلا بالنصر والتحرير إن شاء الله تعالى.