تشكّلت بالتجارب لدي قناعة أننا قبل أن ننادي بتقبّل من حولنا في مختلف العلاقات على ما فيهم من ضعف وأخطاء، ينبغي أن نتقبّل ذلك من أنفسنا بداية، أو بالأحرى نسلّم لكونه حقيقة لا مفر منها. أن نسلّم بأننا في قمة تمثّلنا لمبادئنا قد نخطئ في ذلك التمثل، ولا نعي ذلك إلا بعد حين وقع فيه ما وقع. أن نسلّم بأننا في قمة حماستنا لنكون كل ما لم يكنه أسلافنا أو غيرنا في مختلف سياقات المعاملات، كوالديّة أو أستاذيّة أو محبوبية، قد نغدو أفضل منهم بالفعل في جوانب سقطت منهم سهوا أو عمدًا، لكن سيكون لنا جوانبنا الخاصة التي نسقط فيها سهوًا أو عمدًا كذلك.
لذلك صارت لدي قناعة أخرى هي أن غالب الغضب الكامن وراء الصراعات في العلاقات، غضب من نفوسنا نحن نفرّغه في وجه الآخر ، الذي به اختُبرنا وامتُحِنّا، وبه ظهر لنا ما في نفوسنا من شروخ وما لا نستلطف مجابهته من ضعف. ذلك الضعف الذي منه خلقنا بداية، ومنه نهرب أبدًا. والهروب لم يكن يومًا حلًأ حين نلجأ إليه استسهالًا.
قبل أن ننادي بتقبّل من حولنا في مختلف العلاقات على ما فيهم من ضعف وأخطاء، ينبغي أن نتقبّل ذلك من أنفسنا بداية
والحق أنه لا حل بغير مواجهة شريفة كريمة، تسلّم فيها بنفسك لا لنفسك، وتسلّم بها كلها، ليس على الرغم من ضعفك، بل بضعفك الذي بغيره ما كنت لتجد قوة.نعم، أنت ذاك الذي يمكن أن يخطئ دون أن يستحيل شيطانًا بالضرورة ، ويمكن أن يُحسِن دون أن يكون ملاكًا على الدوام. ويمكن أن يجرح أو يؤلم أحدًا من حيث قصد أن يضمّد ويرأف بآخرين.. أو بنفسه، ويمكن أن يقصد الخير ثم لا يصيبه، ويقصد غير الخير لكن يوفّق للخير منّة من الله؛ ويقع في الشر رغم احترازاته، لا لأنه كتب عليه أن يصير شريرًا، بل لأنه بمغالبته له يثبُت على خيريته ما رجى وجه الله واستعانه.
حين نتقبل أنفسنا على أنها هي كذلك نفوس بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، ويمكن أن يقع منها كل شيء، دون أن يعني ذلك صواب كل ما تفعل أو خطأه جميعًأ لمجرد أنه صدر عنها، حين نسلّم أننا خُلقنا ضعفاء وأُمِرنا أن نأخذ الأمر بقوة في ذات الوقت، فلا الضعف مانع من أن نتقوى ونقوى، ولا القوة قاهرة للضعف بإطلاق.
حين نواجه أنفسنا تلك المواجهة الشريفة الكريمة:
- سيقل جزعنا على صورتنا المُثلى أمام الناس، على اختلاف مستويات قربهم أو بعدهم عنا.
- وستقل حدة الحقد والغل على ذلك الصنف المُتعِب من البشر الذي يستفز فينا أعتى ما تصل إليه طبائعنا، ليدهشنا أن بداخلنا نفسًا لم نقف على كنهها تمامًا، وأن بين جوانحنا طاقات فاتكة لولا رحمة الله بنا ولطفه الذي نأخذه من المسلّمات.
- وسيسهل علينا بالضرورة مبدأ تقبّل أن الآخر بشر.. مثلنا! دون أن يختلط ذلك التقبّل بتلبيس الحق بالباطل والصواب بالخطأ، أو يجور علينا في ترتيب دوائر القرب والبعد لأن بعض الشخصيات أنسب لطبائعنا من غيرها.
- وسيمكننا أن نأتي كل تلك الترتيبات والموازانات في سواء عفوي وتلقائي، دون أن تنقلب كل حركة لدراسة ميدانية في حرب تفاعلات مع مخلوقات ضارية، ودون الحاجة لآلاف الكتب في التنمية البشرية والمعاملات الشخصية والموازنات الاجتماعية. كتاب واحد ربّما أو كتابان!
ورأس الأمر كله دوام الاستعانة بالله تعالى، واستخارته في كل قراراتك بترتيب دوائر علاقات. وتحرّي التفكر في جانبك من المعاملات من كل وِصال بغض النظر عن جوانب الآخرين، لتقوّم من نفسك لنفسك أمام ربك، وهو حسبك وكافيك، أن تقول له يوم تلقاه: "إني ما وصلت فلانًا ولا فعلت مع فلان إلا رجاء أن في ذلك رضاك".
خذ الحياة بقوة، وخض التجربة الإنسانية بقلب جسور فتيّ، عَصيّ على التفّتت مهما تخبّط
خذ الحياة بقوة، وخض التجربة الإنسانية بقلب جسور فتيّ، عَصيّ على التفّتت مهما تخبّط، لا يظلِم ما استطاع ولا يُظلَم حيث لا وجه؛ لذلك متفكّر في المآلات وموازن للعواقب بما يتبين له في حينه، تعبدًا لا لأنها ضمانات بدوام الصواب أو تجنب الزلل على طول الطريق لاحقًا. واستحضر دائمًا أن التفاؤل عندنا عقيدة لأننا موصولون برب كفانا شرّ ما أهمّه، وجعل أمر المؤمن كله خير.
ذلك وكل من عليها فان وليس غير وجه الله يبقى، فاشتغل برضا الباقي تُفلِح.. وتريح قلبك!