في كل يوم تتجلى مظاهر عديدة تؤكد على أننا نخوض صراعاً شرساً ومستمراً في سبيل نيل #الحرية والتخلص من الاستعباد والتبعية، وأن صوتنا ولو كان خافتاً وضعيفاً بات يقض مضاجع العديد من الناس ممن يريدون أن يسكتونا ولو بالقوة!
ما يجري اليوم من أحداث يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن وعي الشعوب، وتعاطفها مع بعضها، ورفضها لإيقاع الظلم على الآخرين، وسعيها إلى الوحدة والتضامن فيما بينهما هو السبب الرئيس في قمعها ومحاربتها بكل الأسلحة المتاحة. لذا مخطئ من ظن اليوم.. أن الصراعات التي تشهدها أمتنا على ساحاتها الداخلية، بعيدة عن تدمير الوعي، وإفشال أي خطوة تجاه نهضة حقيقية لها .
بالأمس رأيناً حرباً شعواء مورست بكل قذارة على تلك الشعوب التي تخلصت من مستبديها وطواغيتها –ولو مؤقتاً- حيث لم يواجهوها بحرب صريحة، لأن أولئك الذين يعملون في الخفاء هم أجبن من التصريح بالمواجهة، والظهور للعلن، وإنما كانت الحرب تدار بأيدي مرتزقة من بيننا، يؤلبون الناس ويستغلون جهلهم، أو يشترون ذممهم لضعف نفوسهم، وكل هذا في سبيل زعزعة إيمان الناس بحريتهم، وتطويعهم من جديد للعودة لسياط الظالم وسجنه وقمعه واستبداده، الذي ينتهك الكرامة، ويبدد موارد الشعوب، بل ويبيع أرضهم ويتنازل عنها أيضاً!
لكن قد ينجح أهل الباطل والمؤامرات في أوقات ما، فهذا طبيعة الصراع المحتوم، الذي يعايشه البشر منذ بدء الخليقة، إلا أن الظلم لا يدوم، والحق لا شك منتصر ولو بعد حين.
أما اليوم.. وفي ظلال الشهر الفضيل، والأمة تتوحد في صيامها وعبادتها، وحدود "سايكس بيكو" تنهار بصوت الأذان الذي يوحدنا في صومنا وفطرنا، وهلالنا الواحد الذي يجمعنا في إعلان بداية الشهر ونهايته، بتنا نخشى على أنفسنا من رفض إيقاع الأذى بالآخرين، والافتراء عليهم، أو حصارهم ومنع القوت عنهم، بسبب إصرار البعض على القطيعة والأذى في أعظم شهر، الذي يتصف فيه المسلمون بالجود والكرم والبذل والعطاء. وتهديد كل متعاطف مع أي مظلوم، حتى لو كان تعاطفه متمثلاً ببضعة حروف مكتوبة أو ملفوظة!!
بتنا اليوم نخشى على أنفسنا من رفض إيقاع الأذى بالآخرين، أو حصارهم ومنع القوت عنهم، بسبب إصرار البعض على القطيعة والأذى في أعظم شهر، وتهديد كل متعاطف مع أي مظلوم، حتى لو كان تعاطفه متمثلاً ببضعة حروف مكتوبة أو ملفوظة
كم هي من جناية كبيرة، يجنيها أولئك على أنفسهم، أن يظنوا أنهم يحجبون #الوعي بقرار أمني، أو إغلاق قناة فضائية، أو حجب موقع إلكتروني، فأولئك يجنون على أنفسهم وأنظمتهم بخوفهم من أقل الأشياء تأثيراً عليهم، وهم يملكون الأبراج العالية، والموارد الاقتصادية الهائلة، والترسانة الضخمة من الأسلحة التي قد صرف عليها المئات من المليارات، وغير ذلك.
عزيزي القارئ.. هل لك أن تتخيل مقدار الرعب الذي يعيشه هؤلاء ويسعون جاهدين لفرضه واقعاً على شعوبهم!! فما الذي يمكن أن تجنيه تغريدة على تويتر أو عبارة على فيس بوك مقارنة بالدبابات والطائرات والصواريخ!
إن الحقيقة الواضحة التي لا غبار عليها، أن هؤلاء وأمثالهم يخشون من أي صوت يناقض إرادتهم.. تماماً كحال أي طاغوت أو مستبد عبر التاريخ، لا يحتمل أن يقول له أحد من الناس أخطأت، أو يقترح حلاً آخراً غير ما يراه.
وكما يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد": فإن "المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته".
إن هؤلاء يدركون جيداً ومن خلفهم، أنهم لن يستطيعوا مجابهة إرادة الجماهير إن هي أرادت أن تتخلص منهم، وسعت للتحرر من حياة الذل والمهانة، ولهذا هم يقومون بتخديرها من خلال ما يأتي:
إن هؤلاء الطواغيت والظلمة يدركون جيداً ومن خلفهم، أنهم لن يستطيعوا مجابهة إرادة الجماهير إن هي أرادت أن تتخلص منهم، وسعت للتحرر من حياة الذل والمهانة، ولهذا هم يقومون بتخديرها
1- التضليل الإعلامي: عبر نشر الأكاذيب والافتراءات، واختلاق القصص والأحداث، وإبراز المنافقين ومن اشتروا ذممهم من الساقطين وأصحاب الألسنة والأقلام لتشويه صورة المصلحين وداعميهم، ومنع الوحدة بين الناس، أو التضامن معهم، ثم إظهار أنفسهم بأنهم المخلصون والمنقذون، وتزييف الوعي من خلال تصوير السعي وراء الحرية بأنه موت محقق، وفوضى تأكل الأخضر واليابس! وهو الجهل بعين ذاته؛ لأنهم يعتبرون الجهل مصدر قوة لهم، وسبباً قوياً لتعزيز ولائهم له. وكما يقول جورج أورويل في روايته 1984: "الولاء يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة إلى التفكير، فالولاء هو عدم الوعي"!
2- التضليل الديني: من خلال تسليط الضوء على من باعوا دينهم لأسيادهم، بحيث يوظفوا الآيات القرآنية لخدمة الاستبداد، وينزلوها في غير منازلها، ويستخدموا النصوص الشرعية بالمجمل في غير مواضعها.. ثم يجتزئون منها بما يناسب رأي "ولي الأمر" وبعد ذلك يخرجون بفتاوى تحت الطلب تخدم مصالح أسيادهم!
لذا لا عجب أن يكون الحصار نافعاً للمحاصرين.. وكأنهم مصابون بمرض بحيث يمنع عنهم الطعام ليشفوا منهم، أو لديهم زيادة وزن فيفيدهم بعمل حمية غذائية لهم، أو حماية لـ"معدتهم" من التخمة وتنويع الأطعمة!
ويدخل في ذات الصدد إشغال الأمة في معارك جانبية، وجعل التوافه من الأمور وصغائرها أموراً مقدسة، في حين تعتبر الأمور العظام، من سفاسف الأمور، أو أنها مقتصرة على "ولي الأمر". وهو نوع من الاستحمار الذي قصده علي شريعتي في كتابه "النباهة والاستحمار" حين قال: "الاستحمار هو طلسمة الذهن، وإلهاؤه عن الدراية الإنسانية، والدراية الاجتماعية، وإشغاله بحق أو باطل مقدس أو غير مقدس".
من صور تخدير الشعوب إشغال الأمة في معارك جانبية، وجعل التوافه من الأمور وصغائرها أموراً مقدسة، في حين تعتبر الأمور العظام، من سفاسف الأمور، أو أنها مقتصرة على "ولي الأمر"
3- الضرب على وتر العنصرية: من خلال تجييش الآلاف من الموظفين الأمنيين؛ ليقوموا بدورهم بشتم الشعوب بأقبح الشتائم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة التشويه على النخب التي تريد أن تبدي رأيها بعقلانية. وللتأكد من ذلك، انظر إلى حساب كل صاحب رأي، وتابع ما يتصل به من تعليقات وردود، وشتائم بين هذا وذاك، وكله مدبر للإيقاع بين الشعوب، وقتل روح الوحدة والتضامن بينها، ونشر العدواة والبغضاء والتفرقة.
4- القبضة الأمنية: سواء أكانت بالاعتقال التعسفي، والسجن على الرأي السياسي، والتحذير من مخالفة "ولي الأمر" أو إبداء الاعتراض على رأيه أو التعاطف مع الآخرين، والتوعد بالسجن الطويل والغرامات الباهظة لكل من يقوم بذلك. وهو ما يفسر سكوت العديد من الناس -ومنهم "العلماء والدعاة"- عن إنكار المنكر والفساد الذي تقوم به سلطاتهم.
5- ربط الناس بمصالحهم، وتخويفهم على أرزاقهم، وإشغالهم في أعمالهم، بحيث يسعى المرء طوال يومه خلف رزقه، لتأمين احتياجاته ومن يعول، مما يعني قتل أي وقت يفكر فيه المرء بنفسه وأمته، وقتل روح الحرية فيه خوفاً على رزقه ورزق عياله، وحتى لا يكون أهله عالة على الآخرين.
إن عمليات التخدير السابقة، لا شك أنها قد تنجح في ظل غياب أو تغييب لأي صوت معارض لها، وإفشال أي تجربة ناجحة نتجت عن حرية الشعوب وأخذها لقرارها من نفسها.
لكنني أعول على أن الأحداث بحد ذاتها هي التي تصنع الوعي، فكل من له عقل يدرك في وقتنا الحالي، أين الصواب وأين الخطأ. وإن غُيّب عقله لفترة ما فإنني موقن بأن الأحداث المتتالية ستكشف له الغطاء الذي حاولت السلطة من خلاله حجب ضوء الحقيقة عنه وعن غيره.
الأحداث بحد ذاتها هي التي تصنع الوعي، فكل من له عقل يدرك في وقتنا الحالي، أين الصواب وأين الخطأ. وإن غُيّب عقله لفترة ما فإن الأحداث المتتالية ستكشف له الغطاء الذي حاولت السلطة من خلاله حجب ضوء الحقيقة عنه
لهذا وفي ظل ما نشهده اليوم من تقدم في وسائل التواصل والوصول إلى المعرفة، فإن الشعوب باتت أقدر على التخلص من الكثير من القيود التي تفرضها السلطات عليهم، لكنها لا يمكن أن تتحرر وتقف في وجوههم على وجه السرعة، وإنما هي بحاجة إلى وقت، و كل حدث أو أزمة من هذا النوع، تستهدف حريتها وكرامتها وأمتها، فهي تعجل ولا شك في نهضة الأمة وتحررها وتخلصها من قيود الاستبداد .
وكم أستحضر هذه المقولة: "إذا استطاع المرء أن يشعر بأن بقاءه إنساناً هو أمر يستحق التضحية من أجله، حتى لو لم يؤد ذلك إلى نتيجة فإنه يكون قد ألحق بهم الهزيمة". ولهذا إن تمسكنا بالحرية أو لم نتنازل عنها رغم كل حملات التضييق، فإننا منتصرون بلا شك.
وهذا هو بالضبط ما يوافق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" ولهذا لا أقل من أن تنكر ما تشاهد، فلا تكن عوناً للظالم وتسقط معه في وحل استبداده، وأن تعزم على تغيير المنكر حال قدرتك على ذلك، وهو بلا شك آت آت.