شهد التاريخ الإنساني كثيراً من الأحداث الدامية التي وقعت بسبب الطغاة والمستبدين الذين جروا على بلادهم ويلات الحروب والهزائم والعداءات نتيجة طمع في توسيع ملك أو تقليل من شأن الشعوب وحقوقها وحياة أبنائها أو الذين باعوا ولاءهم لعدو بلادهم شراء لشرعية مفتقدة داخلياً.
وإن المتأمل في التاريخ الإنساني السياسي يجد أنه غالباً ما تزول الأنظمة الحاكمة لأحد تلك الأسباب إذا صارت جرائم ظاهرة ملموسة وطالت فئات مختلفة من طبقات الشعوب المقسمة عمدا ً.
الجريمة الأولى: إذا تورط النظام في دماء الشعب لمجرد الخلاف في الرأي والاختلاف السياسي خاصة أن تلك الفئات غالباً ما تكون من المؤثرين في الشعوب بشكل ما والقريبين منها، فعادة لا يحمل القضايا العامة ويموت من أجلها إلا أولئك الذين يعرفون قدر الإنسان وحقه كإنسان مجرد.
الجريمة الثانية: تورط النظام في جريمة الخيانة العظمى بالتعاون مع العدو مما قد يؤدي إلى التنازل أو ضياع جزء من الأرض أو المتاجرة بمصلحة البلاد، وتفعلها الأنظمة الغير شرعية التي تستولي على الحكم رغما عن الشعوب، فنجدهم يستجدون تلك الشرعية من الخارج ويستلزم ذلك دفع الثمن، والثمن هو الأرض أو المقدرات التي يملكها الشعب، فيساهم بذلك في إفقار البلاد وإضعافها بفرض مزيد من القمع والاستهانة بمزيد من الدماء والأرواح خاصة الشباب الذي يملك روح المقاومة لتكون حلقة من التنازل الغير محدود شراء لشرعية غير قانونية.
عادة لا يحمل القضايا العامة ويموت من أجلها إلا أولئك الذين يعرفون قدر الإنسان وحقه كإنسان مجرد
الجريمة الثالثة: العبث بمصالح الشعوب الأخرى والتورط في مؤامرات على بلاد آمنة خاصة إذا كانت تلك البلاد تملك من القوة ردع تلك الأنظمة والرد القاسي عليها، ويحدث ذلك العبث نتيجة للجريمة الأولى والثانية، فالنظام المتآمر على شعبه، والخائن لتاريخ بلاده وجغرافيتها يضعه النظام الحر في نطاق المنطقة التي يعيش فيها في حرج مع شعبه، فنجده يعادي الشعوب في كل البقاع، ويحارب الحرية بكل أشكالها هنا وهناك، وهو يدرك جيدا أن الحرية تنتقل بين الشعوب كالنار في الهشيم فهي خطر عليه أينما كانت، كحال المنبطح يبغي من الجميع الانبطاح حتى لا يذكر التاريخ الخيانة منفردة، وقلما نجد طاغية غير خائن لبلاده، وقلما نجد خائناً لبلاده غير متآمر على أنظمة تكفل الحياة الكريمة لشعوبها.
الجريمة الرابعة: التضييق على الناس في أرزاقهم حد تجويعهم أو حرمانهم من المقومات الأساسية للحياة في الحرية والأمان والتعليم والصحة والطعام النظيف الملائم، ويحسب المستبد أنه كلما ولغ في التضييق على الناس، وتخويفهم، ومحاربتهم يومياً بما يشغلهم بالحصول على الكفاف الذي يضمن استكمال يومهم بأمعاء خاوية، يحسب أن ذلك يطيل له في فترة حكمه ويثبت له أركان ملكه، ثم هو يعلم جيدا دور التعليم في غرس روح الحرية داخل عقل وقلب المتعلم، فالشعوب المتعلمة ترفض الخنوع والاستسلام والمهانة، وتأبى لنفسها الظلم فتراها تبذل النفس في سبيل الحفاظ على حريتها، فهو بذلك عدو للعلم والحكمة، يحارب العلماء ويحول بلاده لغابة من الجهالة المظلمة، ثم يصنع له إعلامه هالة من الجبروت يسفه فيها من قيمة العلم ويقلل من شأن حامليه ساخراً في بلاهة ككل مستبد نبذه التاريخ في أسوأ صفحاته.
المستبد يعلم جيدا دور التعليم في غرس روح الحرية داخل عقل وقلب المتعلم، فالشعوب المتعلمة ترفض الخنوع والاستسلام والمهانة، وتأبى لنفسها الظلم
فأما أن نجد تلك الجرائم مجتمعة لتكون هي الوسيلة الوحيدة لنظام في مطلع القرن الواحد وعشرين بينما العالم الأول والثاني قد تخطى حدود الكرة الأرضية وغزا الفضاء، وفي دولة تخطى عمرها الحضاري السبعة آلاف عام فهذا هو العجب العجاب، وفي الوقت الذي تنتقل فيه الدول بشعوبها لمزيد من الرخاء والحرية ليحاسب الحاكم على عدد أنفاسه تتراجع مصر إلى ذيل الأمم الفقيرة المتخلفة ويتقلد الحاكم درجة الألوهية فيقتل هنا ويبيع هناك، ثم يقوم بكل الخطايا التي لم يفعلها حاكم قبله من التفريط الرخيص في شريان الحياة في مصر بالتنازل عن حق مصر التاريخي في مياه النيل وكأنه ما أتى إلا ليخرب تلك البلاد في أسرع وقت ممكن بعدما استطاع باستخدام الجيش أن يكمم الأفواه بقتل الآلاف وسجن أضعافهم والخطف القسري في جرائم لم تكن تحدث إلا فيما قبل التاريخ، وسط تشجيع دولي نتيجة المكاسب الخيالية التي جنوها من وراء دعم ذلك الانقلابي المستعد للتنازل عن كل شيء في سبيل بقائه على كرسي الحكم.
والحقيقة أنه كما شهد التاريخ أنظمة قامت ببعض الجرائم التي قام بها ذلك الطاغية، فإن التاريخ يشهد كذلك بسقوط تلك الأنظمة حتما، بل وكان سقوطها مدويا وفاضحا ودمويا بشرط واحد وهو الذي وجهنا إليه الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
نعم إنها سنة الله في الأرض، وهي أن #التغيير إنما هو إرادة يعمل عليها الناس ويصنعونها صنعا لإزالة ما يعمهم من بلاء وما يكتنفهم من ظلم، إننا لم نشهد في حركة التاريخ كله مهما بلغ الظلم من مدى أن السماء أمطرت على البشر حرية، أو أن الحق عاد يوما لأصحابه دون أن يتحرك هؤلاء بكل ما يملكون من قوة لاسترداد حقوقهم المغتصبة، و الصلاح وحده لا يكفي لتغيير حالة مجتمع من الظلم إلى العدل، وإنما يجب أن يلازمه الإصلاح، وهو الحركة الإيجابية في أي مجتمع بتحويل المتقاعس والخانع لغاضب رافض لكل مظاهر الظلم والخيانة، وتحويل حالة الحزن والانهزام إلى غضب هادر يجرف في سبيله كل مظاهر الاستبداد، ولن يستطيع جيش مهما بلغت قوته أن يهزم شعبا تحرك لاسترداد حقه، ولن يستطيعوا قتل شعب بأكمله، أو سجنه بأكمله.
إننا لم نشهد في حركة التاريخ كله أن السماء أمطرت على البشر حرية، أو أن الحق عاد يوما لأصحابه دون أن يتحرك هؤلاء بكل ما يملكون من قوة لاسترداد حقوقهم المغتصبة
إنه أصبح من الواجب على المصلحين وقادة الرأي والقائمين على التغيير في مصر ومعظم بلاد العرب التي يتلاعب بها حكامها ويقدمونها كالمطية تحت أرجل أعدائها، من واجبهم أن يغيروا استراتيجياتهم في مواجهة هؤلاء الحكام، فلا يوجد فصيل واحد مهما بلغت قوته يقدر على التغيير وحده، حتى مفهوم التغيير يجب أن يتغير ليشمل مفاهيم كثيرة أهمها الحرية والعدل وفي مقدمتها الإنسان كفكرة غير قابلة للتقليل من شأنها، إنه لمن المؤسف أن أقول أن معظم هؤلاء المنادين بالتغيير هم أنفسهم عقبة في طريقه ، وأنه في الوقت الذي تتحد فيه القوى الأخرى لامتصاص دماء الشعوب، تنقسم الشعوب نفسها على نفسها وتأكل بعضها بعضا بدلا من أن تأكل عدوها الذي وصل بها إلى ذلك المستنقع الآسن من الاستعباد في زمن الحريات.
لقد أصبح لزاماً على الدعاة والسياسيين والقاعدة الشعبية أن يعرفوا من عدوهم وأن يوقنوا أن كل يوم يمر عليهم وهم بتلك الحالة من التشرذم والانقسام والسطحية إنما هو في صالح عدوهم ودعم له أكبر.
إنه قد آن الأوان لإعطاء الشعب حقه في التوعية اللازمة، والشعوب ذكية، وسرعان ما ستعي من معها ومن عليها والواقع يصدق ذلك وسوء أداء المستبدين يدفعهم للثورة شرط توفر القيادة الواعية التي تجمع الشتات وتطوي تحت جناحها الفرقاء.
فما ينقصنا اليوم إذن إعلام عميق وقد رأينا بأنفسنا خطورة تلك القضية حين أصرت دول العدوان على قطر على غلق مجموعة الجزيرة بعدما فشلت في منافستها بإعلام الكذب الذي صارت ترفضه غالبية الجماهير العربية، ثم القيادة الذكية التي تستطيع أن تحرك الشعب برسالة إذاعية موجهة من جهاز محمول ليحبط انقلابا بخيانة داخلية وخارجية.
إن من يريد أن يراهن فليراهن على الشعوب ووعيها، ومن يستطيع أن يملك تلك القوة الجبارة فهو المنتصر ، الكلمة للشعب وحده فلتساعدوه إن استطعتم على قولها، أو ستغرق السفينة بنا جميعاً قبل أن نقوم من مقامنا، ولنعلم جميعا أن الاستبداد مهما قويت شوكته، ومهما بلغت درجة مرارته لن يسقط إلا إذا قررت الشعوب إسقاطه.