كثيرًا ما نشتكي ونتبرم من أمراض المجتمع، وما يحتويه من تدهور وانحلال أخلاقي. ونأخذ في المقارنة بين عصرنا وعصر نبينا ﷺ، حيث الطهارة والشفافية وحسن الخلق. ولكن إذا ما أمعنا النظر في السيرة، لوجدنا أن فهمنا مبتور في كثير من الأحيان. فالعديد من الآفات المجتمعية كانت موجودة في عصره ﷺ، وبالتالي وُجد العصاة. وهنا طرح لموقفين يمثلان أزمتين أخلاقيتين جوهريتين وقعتا في عصره ﷺ، وبعض الوقفات عليها للاستفادة من أسلوبه في التعامل مع العصاة:
ما فعل شِراد جملك؟!
وهي قصة الصحابي خوَّات بن جبير رضي الله عنه، وكنيته أبو عبد الله. والقصة باختصار هي أن خوَّاتًا كان مع النبي ﷺ في سفر، فخرج ذات مساء من خيمته وجلس مع النساء. ولما رآه النبي ﷺ، سأله: "أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا يُجْلِسُكَ مَعَهُنَّ؟" فلما استحى وارتبك، ولم يجد ما يجيب به، قال:( جَمَلٌ لِي شَرَدَ، فَأَنَا أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا!) ولكن النبي ﷺ، أدرك أن هذه ليست الحقيقة، فتركه وانصرف. غير أنه استمر يسأله كلما رآه بعد هذه الحادثة، هذا السؤال: "أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ؟" على أمل أن يخبره خوات بالحقيقة.
وهكذا، قرر صاحبنا تجنب المسجد النبوي، لتلافي مواجهته ﷺ. غير أنه اشتاق للمسجد بعد فترة، فقرر المجيء في غير وقت الصلاة، ولكن النبي ﷺ كان موجودًا. فكان لابد من المواجهة، وقرر خوات أن يعتذر أخيرًا. فلما انتهى الصحابي من صلاته وسأله النبي ﷺ نفس السؤال، أجاب خوات: (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمت). فرد ﷺ: "رَحِمَكَ اللَّهُ [ثَلاثًا]، ولم يعد خوات لمثلها أبدًا. [أخرجه الطبراني بإسناد صحيح].
وقفات تربوية:
الأولى: هي اعتراف الإنسان بالخطأ والحياء منه، فرواي القصة هو خوات رضي الله عنه نفسه. كما أنَّ استخدام الصحابي لصيغة المتكلم، وهو يحكي خطأً ارتكبه، ينم عن الأثر العميق الذي تركه الموقف في نفسه.
الثاني: تعاطي النبي ﷺ مع الموقف، وهو ما يفتقده الكثير من المربين في زمننا. وهنا بعض الدروس والعبر:
1- لم يعنف النبي ﷺ الصحابي، وإنما سأله بمنتهى الهدوء ومستخدمًا كنيته، وهي دليل القرب والمودة. ولم يكذِّبه النبي ﷺ، حين لم يُدلِ بالسبب الحقيقي، وإنما تركه ومشى.
2- النبي ﷺ لم ينسَ الموقف، وكان حريصًا كل الحرص على تأديبه، ولكن دون إحراج أو إهانة. ومن ثَمَّ، نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام، اكتفى بترديد السؤال: "ما فعل شراد جملك؟" على مدار القصة، لا أكثر ولا أقل! فلا مواعظ ولا تأنيب. ومع ذلك، بعث كثرة ترديد السؤال في نفس الصحابي شعورًا بالخجل والندم على ما فعل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على التأديب لكن دون إحراج أو إهانة
3- ردة فعل النبي ﷺ، حين اعتذر الصحابي، فلم يعلق على كونه لم يخبره الحقيقة بادئ ذي بدء، أو يؤنبه على خطئه. وإنما اكتفى بالدعاء له، فقد أدرك ﷺ أن خوَّاتًا قد استوعب الدرس.
يشرب الخمر، ويحب النبي ﷺ!
الموقف الثاني، هو قصة شارب الخمر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: (أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا. وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"). [صحيح البخاري].
وقفات تربوية:
الأولى: حِرْص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذكر صفة حسنة للصحابي الذي كان يشرب الخمر بكثرة. وهي أنه (يضحك الرسول ﷺ)، فهو بهذا سبب في إدخال السرور على قلبه ﷺ. وهذا هو الأصل في إسلامنا، أن نحرص على ذكر محاسن الإنسان، والنظر للجانب المشرق منه، وجعله يطغى على الجانب المظلم حتى يمحوه، فـ} الحسنات يذهبن السيئات { (سورة هود، 114). وذلك على نقيض ما يفعله البعض في عصرنا، حيث تجدهم "يُنَقِّبون" بحثًا عن الجانب المعتم في الآخرين، وما إن يجدوه حتى يستغلوه كوسيلة، تَجُبُّ ما قبلها وتمحو ما بعدها من الخير!
علينا أن نحرص على ذكر محاسن الإنسان، والنظر للجانب المشرق منه، وجعله يطغى على الجانب المظلم حتى يمحوه
الثانية:
وكذلك فعل النبي عليه الصلاة والسلام الأمر ذاته (وهو ذكر صفة حسنة للصحابي)، ألا وهي حبه للنبي ﷺ. ونلاحظ تعبير نبينا ﷺ، وهو "فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، فنحن ليس لنا أن نحكم على الناس إلا بما هو ظاهر وبيِّن أمامنا، أما ما خفي فالله به أعلم!
نحن ليس لنا أن نحكم على الناس إلا بما هو ظاهر وبيِّن أمامنا، أما ما خفي فالله به أعلم
الثالثة:
ورد في القصة أن ذاك الصحابي كان يُضحِك النبي ﷺ، واستخدام الفعل المضارع، يشير على أن إضحاكه كان في مواقف متعددة، وهذا يدل على أن النبي ﷺ لم يُقصِه عن مجلسه إطلاقًا على كثرة شربه للخمر، وإنما كان يجالسه، بل ويأنس بصحبته، ومع ذلك كان يعاقب على معصيته ويجلد عليها.
من تلك المواقف ومن غيرها، يتضح أن مجتمع النبي ﷺ لم يكن خاليًا من العصاة، والمخطئين! بيد أنه كان حافلًا بأناس أوّابين للحق، وآخرين ذوي صدور رحبة، تحرص على النظر للجانب المشرق من الإنسان والإشادة به، وإعانته على التخلص من الجانب المعتم!