الهجمة الصهيونية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني لم تكن مقتصرة على قتله وتهجيره من أرضه وممتلكاته فحسب، بل سبقتها ورافقتها أعمال "قتل معنوي" للشخصية الوطنية الفلسطينية وللتاريخ الفلسطيني القديم، وصولا إلى الإلغاء الكامل للفلسطيني واعتباره كأنه لم يكن موجودا، وقد تولى زمام هذا العمل اللاأخلاقي نخبة من مفكري وأكاديميي المشروع الصهيوني عبر ما يطلق عليه "حقل الدراسات التوراتية الأكاديمية" وهي الدراسات التي تساهم بفعالية –سابقاً وحتى الآن- في تشكيل نظرة النخب الغربية للقضية الفلسطينية، خصوصا أنها تدعي الموضوعية العلمية، وتتلبس ثوب الحيادية في الوقت الذي كانت تبث فيه سمومها وأكاذيبها، وعملت بفعالية شديدة في حقل تزوير الحقائق التاريخية وطمس ما لا يروقها، مانحة الأساطير التوراتية شكلا علمياً مقبولاً ومصداقية أكاديمية.
هذه الدراسات لم تنظر إلى تاريخ فلسطين القديم إلا بكونه تاريخ "إسرائيل"، ووظفت عدداً مذهلاً من التعبيرات للدلالة على المنطقة كالأرض المقدسة، أرض التوراة، أرض "إسرائيل"، يهودا والسامرة، وهي تعبيرات قد تبدو مترادفة وحيادية، إلا أنها كانت تتضمن معاني السيطرة على هذه الأرض، ملغية وجود أي تاريخ خاص بفلسطين، فتاريخها هو تاريخ "إسرائيل"، وهذا الغياب للتاريخ تتوافق معه فكرة غياب السكان من هذه الأرض، فالأرض تبدو فارغة ومجردة من أي اهتمام فيما عدا بعض الآثار القديمة المهمة لفهم تطور "إسرائيل" القديمة، وقيمة الأرض ليست كامنة في ذاتها بل تكمن في أنها تمثل ميدانا للتاريخ الحقيقي والأصيل "لإسرائيل"، وسكانها لا يمكن أن يطلق عليهم "فلسطينيون" بل هم عموريون أو كنعانيون أو "إسرائيليون".
فلسطين توصف في هذه الدراسات على أنها منطقة صغيرة وفقيرة ومعزولة، ثم يتغير هذا الوضع وتصبح فلسطين مرموقة فقط بسبب الوجود التاريخي لـ"إسرائيل" فيها
إن رفض استعمال صفة واحدة لنعت سكان المنطقة يشكل إنكاراً مريعاً للوجود وللتاريخ الفلسطيني، ولهذا فإن فلسطين توصف في هذه الدراسات على أنها منطقة صغيرة وفقيرة ومعزولة، ثم يتغير هذا الوضع وتصبح فلسطين مرموقة فقط بسبب الوجود التاريخي لـ"إسرائيل" فيها.
الدراسات التوراتية عملت على تجريد الفلسطينيين من وطنهم، وصورته على أنه شعب بلا تاريخ وبالتالي فهو شعب غير ذي أهمية، وفي نهاية الآثار بعد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين ولغاية الأن، ويوضح الدستور الخاص بصندوق الأمر غير موجود، ثم ُقدمت هذه الجريمة على أنها بحث علمي موضوعي، وهذا الفهم المزور كان له تأثير قوي في أعمال التنقيب عن استكشاف فلسطين الذي أنشئ عام 1865 أن فلسطين لم تكن مهمة في ذاتها، بل لأسباب أخرى متصلة بالتوراة، فالأهداف المعلنة لهذا الصندوق هي: البحث الدقيق والمنهجي عن الآثار والطوبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية وعادات وتقاليد شعب الأرض المقدسة بهدف فهم التوراة ، وبهذا تصبح فلسطين الأرض المقدسة وتاريخها وتضاريسها لا قيمة لها في ذاتها ولا تكتسب قيمتها إلا بقدر ما هي مهمة لفهم التوراة، تلك هي النظريات المسيطرة على الدراسات التوراتية في الغرب، بحيث إن التاريخ الفلسطيني نفسه يصبح غير موجود، وتاريخ المنطقة ذاتها يصبح تاريخ "إسرائيل" القديمة كما صورته صيغ التراث التوراتي.
لقد بات تاريخ فلسطين القديمة وزمانها الخاص مطموساً تماما بفعل طغيان الزمان التوراتي، وتم تقسيم تاريخ المنطقة بشكل متقن في خانات مستندة إلى الروايات التوراتية والأساطير التي احتوتها، فكانت هناك مرحلة الآباء ثم الخروج والغزو والاستيطان، ثم تبعتها مرحلة مملكتي داود وسليمان الموحدتين، وممالك إسرائيل ويهودا المنقسمة، ثم النفي وبعد ذلك الإصلاح، وعلى هذا الأساس يصبح تاريخ المنطقة القديم عبارة عن تاريخ الشخصيات والأحداث الأساسية في التراث التوراتي، وكأنه لم يكن للفلسطيني أي وجود سابق أو لاحق.