لا نزال مع بعض القضايا الإشكالية التي تضخها بعض الأوساط المعادية للمشروع الإسلامي، وتعمل ضمن منظومة إعلامية وسياسية ومجتمعية، من أجل التشكيك في قدرة الإسلام ونصوصه المقدسة على إقامة مشروع حضاري متكامل الأركان.
وفي سياقات سابقة، تناولنا منظومة الأخلاق والقيم التي استند إليها الإسلام، وكيف أنها تساهم في إقامة مجتمعات راسخة مستقرة، وحية، أي قابلة للتطور الحضاري والإسهام في المجال الإنساني العام، وكيف أن الإسلام يتضمن سواء في نصوصه ومتونه، أو في مجال التطبيقي خلال القرون التي تلت تأسيس الدولة الأولى في المدينة المنورة، القواعد الصحيحة لإقامة العمران.
ونقف في هذا الإطار، على مشكلة أخرى مطروحة في وقتنا الراهن، وهي أن #القرآن الكريم، باعتباره أساس العقيدة، لا يمكنه أن يقدم نموذجًا معرفيًّا يقوم على العقل، وإنما يفرض نصوصًا "جامدة" على المسلم، يتلقاها وينفذها من دون كثير تفكير.
ويعود بعضٌ من جوانب هذه المشكلة إلى جذور داخلية، ليس في النص بطبيعة الحال، وإنما في ممارسات خاطئة رسخها البعض في عصور التأخُّر الحضاري للأمة، كرَّست هذه الصورة الذهنية عن الإسلام، وعن القرآن الكريم.
في البداية؛ فإن المقصود بالنموذج المعرفي، هو ذلك الإطار أو التصور المتكامل التي يفسر به الإنسان الظواهر من حوله، ويتعامل معها، ويعتمد أكثر ما يعتمد على العقل، الذي يقدم للإنسان، وللجماعة في آنٍ، الأدوات التي يمكنه من خلالها القيام بهذه الأمور؛ الفهم والتحكم، من أجل تحسين بيئة الحياة بشكل عام، وتحقيق الاستقرار النفسي والوجداني للجماعة البشرية، وبالتالي؛ الحفاظ على تماسكها وتعاونها.
النموذج المعرفي، هو ذلك الإطار أو التصور المتكامل التي يفسر به الإنسان الظواهر من حوله، ويتعامل معها، ويعتمد أكثر ما يعتمد على العقل، الذي يقدم للإنسان، وللجماعة في آنٍ، الأدوات التي يمكنه من خلالها القيام بهذه الأمور
والقرآن الكريم، بالرغم من أنه فريضة من الله تعالى على الإنسان {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سُورة "القصص" – الآية 85]؛ إلا أنه لم يمنع الإنسان من تكوين تصوراته الخاصة عن الإطار المحيط به، في ظل حقيقة بديهية، تدركها الحكمة الإلهية البالغة؛ حيث يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير؛ بأن الإنسانية خُلِقَتْ شعوبًا وقبائل، وخُلقِتْ مختلفة، كما في سورتَيْ "الحجرات" و"هود"، وغيرها من سُور القرآن الكريم.
وبالتالي؛ فإن الظروف المحيطة بالجماعة البشرية تتغير، بما يتطلب خصوصية في فهم هذه الأمور، والتعامل معها، وتتعلق بالأساس بإدراك الظروف المحيطة، من أجل تحقيق سُنَّة التسخير؛ تسخير الموجودات لخدمة الإنسان، من أجل تحقيق حاجاته الأساسية والمتطورة التي تميزه عن سائر مخلوقات الله عز وجل الأخرى، لمساعدته على القيام بمهمته الأساسية، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإفراده بها، وإعمار الأرض لأجل ذلك الغرض المقدس.
ولو بحثنا في القرآن الكريم، فإننا سوف نقف أمام الكثير من الآيات التي تدعو الإنسان إلى التفكُّر وإعمال العقل، وأخذ المعرفة من كل مصادرها، وعدم الوقوف أمام النص المقدس فقط، الذي نزل في صياغة عامة شاءتها حكمة الخالق؛ لأجل تحديد القوانين والقواعد الحاكمة، وهدايته إلى الصواب، ثم ترك المجال حرًّا للإنسان للتحرُّك في إطارها، أو في إطار خياراته الخاصة، من أجل تحقيق مبدأ العدالة في المحاسبة، في الدنيا والآخرة.
وهو ما جعل القرآن الكريم صالحًا لكل زمان ومكان.
في القرآن الكريم، نقف أمام الكثير من الآيات التي تدعو الإنسان إلى التفكُّر وإعمال العقل، وأخذ المعرفة من كل مصادرها، وعدم الوقوف أمام النص المقدس فقط، الذي نزل في صياغة عامة شاءتها حكمة الخالق؛ لأجل تحديد القوانين والقواعد الحاكمة، وهدايته إلى الصواب
فأول ما أقسم به الله تعالى في القرآن الكريم؛ هو: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ}، في سُورة "القلم"، وهذه السُّورة نزلت بعد سُورة "العَلَق"، التي تبدأ بأول ما أُنزل من القرآن الكريم، وهو الأمر الإلهي الخالد: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
هذا القسم بـ {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ}، جاء لكي يؤكد الله تعالى بها، نبوة الرسول الكريم، محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بكل ما يعنيه ذلك من أمور عظمى، أو بمعنى أدق، هي أعظم وأخطر أمور الدنيا؛ عقيدة التوحيد، الإسلام، الدين الخاتم.
بذلك رسَّخ القرآن الكريم أهمية المعرفة واللغة في هذه الأولوية، وفي هذا الترتيب، وكأنما شاءت حكمة رب العزة سبحانه، أن يقول للناس: أن أهم وأولى ما ينبغي على الإنسان أن يفعله، هو أن يقرأ، وأن أهم ما خلق سبحانه، هو القلم.
رسَّخ القرآن الكريم أهمية المعرفة واللغة وكأنما شاءت حكمة رب العزة سبحانه، أن يقول للناس: أن أهم وأولى ما ينبغي على الإنسان أن يفعله، هو أن يقرأ، وأن أهم ما خلق سبحانه، هو القلم
وارتباط #القراءة والاطلاع بشكل عام بتوسيع مدركات الإنسان، وتكوين فهمه لما يحيط به من تطورات وحوادث كبار، سواء على مستوى المجتمع الصغير الذي يعيش فيه، أو في الإطار الإنساني العام؛ هو ارتباط قديم، بل إن البعض يعتبر القراءة هي أهم مصادر تكوين النموذج المعرفي الذي يحرك الإنسان، ولذلك اختار الله تعالى القرآن الكريم الذي هو كلمات مقروءة مسطورة في كتاب، هو المصحف الشريف، لكي يكون هو معجزته الخالدة، وفيه تعاليمه للبشر.
بل إن مسألة تطوير الإنسان لنموذج معرفي من خلال الموجودات المحيطة به، هي أحد أهم المسارات التي يمكن أن يصل الإنسان بها إلى الإيمان بالله تعالى.
يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سُورة "فصِّلَتْ" - الآية 53].
فهذه الآية تقول بأن إرادة الله تعالى النافذة، هي التي فرضت على الإنسان ذلك في الأصل.
وبالتالي؛ فإن القرآن الكريم، من خلال ما دعا إليه في صدد التدبر في الخلق الإلهي، والقراءة والاطلاع، والسعي إلى الفهم؛ هو ذاته، هو دعا الإنسان والجماعة البشرية، إلى تكوين النموذج المعرفي الخاص بها، وفق ما تقتضيه مصلحتها، ولكن في سياق ما وضعه الله تعالى من قوانين، سواء قوانين الخلق والعمران النافذة، أو قوانين الشريعة الإسلامية، التي سوف يُحاسب الإنسان على مدى التزامه بها.
وبالتالي؛ فنحن أمام جوهر الحضارة الإنسانية في كتاب الله تعالى، وبالتالي؛ فإن كل ما يُقال في خلاف ذلك؛ إنما هو ضمن مساعي التشويش التي تواجهها الأمة، وبالتالي؛ فإنه من الضروري في الوقت الراهن، العمل على مواجهتها، وأول وأهخم خطوة هو تفكيك بعض المكونات المعيقة لذلك، والتي ترسَّخت في الذهنية المسلمة في قرون التخلف الحضاري التي مرت بها الأمة، ضمن قوانين الله عز وجل في صعود وهبوط الأمم والحضارات.