إن سؤال القيم في المواقف السياسية ليس جديداً، لكنه ازداد أهمية بعد ما يسمى بالربيع العربي، وفي ظل الإعلام الشبكي، وسهولة امتلاك وسائل النشر التقني، والتأثير في الرأي العام، حيث يزداد الاهتمام به عندما يكون للرأي العام أثر في القرار(1).
المصلحة السياسية أم القيم الأخلاقية؟
برزت أسئلة حول المآلات المترتبة على التزام الإسلاميين بالقيم في التدافع السياسي، وتقديمهم إياها على المصالح، وهل هذا التحدي سيقودهم إلى الابتكار والتجديد لأساليب جائزة تحقق تفوقهم؟ أو سيضعفهم في مواجهة خصمهم ويفقدهم وسائل كثيرة؟
وهل عدم التزام الخصم بالقواعد الأخلاقية مسوغ لمجاراته ومشاكلته؟ وهل ينحاز الموقف الشرعي للغاية والمقصد أو للوسيلة وميزان السياسة؟
اشتهر المنطق الميكافيلي في العمل السياسي، الذي يرى أن الغاية تبرر الوسيلة، وكانت ردة فعل معظم الإسلاميين عليه، بأن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن الغاية النبيلة ينبغي أن تكون وسيلتها نقية مثلها، وما يظهر لي أن إطلاق الأمرين هكذا ليس دقيقاً من حيث الموقف الشرعي، وبسط القول فيها كالآتي:
الأصل الجمع بين نقاء الغاية وأخلاقية الوسيلة؛ لأن الأخذ بالمصالح دون أخلاق يضر بالإسلام، والأخذ بالأخلاق دون مصالح يضر بالناس
إن وسائل التدافع السياسي لا تنحصر، ولا نطلق عليها إسلامية أو غير إسلامية لذاتها، فهي ملك للإنسانية جمعاء، لكن طريقة توظيفها هي التي يمكن أن تكون إسلامية أو منافية لمبادئ الإسلام، وهذه الوسائل الموصلة إلى المقاصد والغايات، منها ما جاء النص بها، ومنها ما سكت عنها، فتدخل في عموم المباح، لكنها تأخذ حكم ما توصل إليه، فالوسيلة المباحة الموصلة إلى الواجب واجبة، والوسيلة إلى المحرم محرمة، فالأمر بالشيء هو أمر به وبكل ما يؤدي إليه، والنهي عن الشيء نهي عنه وعن كل ما يؤدي إليه(2)، والأصل الجمع بين نقاء الغاية وأخلاقية الوسيلة؛ لأن الأخذ بالمصالح دون أخلاق يضر بالإسلام، والأخذ بالأخلاق دون مصالح يضر بالناس، لكن دائرة الإشكال تبقى في الوسائل التي تحقق مصلحة ولا تنسجم مع القيم، والذي يترجح فيها التزام #القيم وتقديمها على المصالح في التدافع عند العجز عن الجمع، ومن أكبر المفاسد المقامرة بالأخلاق، فالدين لا ينتصر بالكذب والخيانة، وإن تجرد الخصم من الأخلاق ليس مسوغاً لمجاراته، ويشهد لذلك:
1- جاء عن ابن مسعود –رضي الله عنه-: «إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» (3).
2- روى عقبة بن عامر الجُهَنِيّ –رضي الله عنه- أنه قدم على أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- برأس كافر قطعها، فأنكر أبو بكر ذلك، فقيل له: يا خليفة رسول الله، إنهم يفعلون ذلك بنا، فقال: «فاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يُحْمَل إليّ رأس، إنما يكفي الكتاب والخبر»، ففعل الخصوم ليس مبررًا لمماثلتهم.
يمكن الترخص عند اقتضاء الحاجة بالقدر الذي تندفع به الحاجة، إذا كان المقصد معتبراً، فكما تدخل الرخص في مجال العبادات والمعاملات، تدخل أيضاً في الوسائل والآليات
هذا هو الأصل والعزيمة، غير أنه يمكن الترخص عند اقتضاء الحاجة بالقدر الذي تندفع به الحاجة، إذا كان المقصد معتبراً، فكما تدخل الرخص في مجال العبادات والمعاملات، تدخل أيضاً في الوسائل والآليات، ويجوز الأخذ بالوسيلة الممنوعة في أصلها إن ترتبت مصلحة شرعية عليها، فما حرم لغيره تدخله المرونة، وتبيحه الحاجة، فالعبرة بسير السفينة في الاتجاه المطلوب، أما وضع الشراع بصورة معينة، فهو تبع لحفظ توازن السفينة، وانسجامها مع اتجاه الريح(4)، ويشهد لذلك:
1- قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، أي يجوز للمظلوم الانتصار من ظالمه وتبيين الظلامة(5).
2- جاء عن العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها، أو تباح، لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح"(6).
ضوابط تحافظ على صحة مسار السفينة وإن تغير اتجاه الشراع:
إن الاستثناء و#الترخص في ظل الاستضعاف لا يفتح الباب على مصراعيه لكل وارد، وإنما هناك ضوابط ينبغي مراعاتها في هدف الرسالة السياسية والإعلامية، والأداة المستعملة فيها، والأسلوب الممارس، والمآل المترتب عليها، ومدار هذه الشروط على رعاية الصلاح ونفي الفساد(7)، ولعل من أهم هذه الضوابط:
أولاً: أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، وغالبة إذا قرنت بالمفاسد لا نادرة، ولا تندفع الحاجة بغير هذه الوسيلة، فالسخرية والاستهزاء مثلاً لا تجوز إلا في حالات استثنائية تؤدي إلى الإصلاح لا الإفساد(8)، ويرجع في تقدير المصلحة والمفسدة إلى الثقات الملمين بمقاصد التشريع، المدركين لحجم التحديات الميدانية والسياسية والإعلامية.
ينبغي أن يكون رد المخالف إلى الصواب مقدماً على تحطيمه وتحقيق الغلبة عليه في المنافسة الداخلية خلافاً للعدو الخارجي
ثانيًا: التفريق بين الوسائل المستعملة مع العدو الخارجي، وبين الوسائل المستعملة مع المنافس الداخلي، ففي المنافسة الداخلية ينبغي أن يكون رد المخالف إلى الصواب مقدماً على تحطيمه وتحقيق الغلبة عليه، كما لا يُردُّ القول إن كان صواباً لمجرد صدوره من الخصم، فالمعاداة لكل ما يصدر من الآخر، وقبول الرواية الحزبية وإن كانت باطلة، مجافاة لمنهج العدل.
ثالثًا: الالتزام بالمواثيق وعدم الغدر، ويفرق هنا بين الدهاء السياسي وبين الغدر، فالخدعة المباحة، التي تضلل الخصم عن طبيعة تحركاتك ومخططاتك جائزة، بخلاف الغدر بالمعاهدات والمواثيق، والتنصل مما قطعت على نفسك من التزامات.
الدعوة إلى التزام الضوابط الشرعية، ينبغي أن يوازيها تقديم رؤية إسلامية حضارية متزنة حول منهج الانتقاء والاختيار من هذه الوسائل
ختاماً: فإن الفتاوى التي تضيق دائرة الوسائل المباحة، وتحمل على العزائم والمثالية دائماً، دون التفات إلى مساحة العفو الشرعي واليسر، تجعل جزءاً كبيراً من السياسيين والإعلاميين يربط أي دعوة إلى الالتزام بالفتاوى المتشددة، مما يجعله يفضل خيار الحرية المطلقة بعيداً عن الضوابط، ولهذا فإن الدعوة إلى التزام الضوابط الشرعية، ينبغي أن يوازيها تقديم رؤية إسلامية حضارية متزنة حول منهج الانتقاء والاختيار من هذه الوسائل.
___________________________________________
الهوامش:
(1) الحرب النفسية أضواء إسلامية، للدكتور فهمي النجار (ص: 158).
(2) انظر: شرح منظومة القواعد للدكتور عبد العزيز العويد (ص: 165 وما بعدها).
(3) أخرجه أحمد في مسنده (ح: 3672) (6/189)، وفي إسناده مقال، غير أن معناه ثابت مستقر، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، طبعة الرسالة، الطبعة الأولى، سنة 1421هـ.
(4) انظر: المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا (ص: 957).
(5) انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، عامة 1422هـ.
(6) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز ابن عبد السلام (1/14).
(7) انظر: أخلاقيات العمل الإعلامي- دراسة في منهج الإعلام الإسلامي لعمر ملكاوي (ص: 10).
(8) انظر: الدعاية السياسية: أساليبها ووسائلها دراسة تأصيلية (ص: 137 وما بعدها)، الإعلام البديل بين الضوابط والمحاذير للشيخ محمد سليمان الفرا (ص: 18 وما بعدها).