الهرب ليس حلًا والحجة قائمة عليك!

الرئيسية » خواطر تربوية » الهرب ليس حلًا والحجة قائمة عليك!
g1wdckcv3w-mantas-hesthaven

تناولنا في المقال السابق، مفهوم إدارة النفس، ومنبع الخلل الذي يجعلها مستعصية على الانقياد، وظاهرة الغرق في انشغالات تبعدك عن مواجهة ما لا مفر منه. في هذا نقف على بعض الحجج التي يتدّرع بها الهارب من مواجهة نفسه.

1. أخشى أن تنقلب معرفتي به حجّة علي إذا لم أعمل

ليس من ديننا الهروب من مواجهة مسؤولية الحياة ومسؤولية العقل ومسؤولية الاختيار ، إن هذه المسؤوليات هي ما تجعل منك إنسانا، فلا أنت حيوان ولا ملاك ولا شيطان، وإنما تكوينك الفريد من جماع خصائصهم هو عين الامتحان وحكمة الاختبار، وطالما أنك موجود فأنت ممتحن شئت أم أبيت.

وحين نتأمل توجيهات الله تعالى عن أعدى أعداء بني آدم من كيد الشيطان واتباع الهوى وخواطر النفس الأمّارة، بالسوء، لا نجد فيها توجيهًا يدعو للهرب أو الفرار أو الخوف. لم يأمرنا الله بالخوف إلا منه، ولم يدعو للفرار إلا إليه؛ أما أولئك فكانت الأوامر بصددهم دائما تقوم على فعل إيجابي لا تولٍّ سلبي: استعذ، استعن، قاوم، استغفر، تب، أصلح...

لذلك عدم الحرص على معرفة الواجب لا يسقط وجوبه، وليس كل جاهل يعذر بجهله، فمن بلغ الستين ليس كمن توفاه الله في العشرين، وفي الحديث: " أعْذَرَ الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة" [البخاري]، أي لم يبق له عذر يعتذر به كأن يقول: لو مُد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به.

كذلك من يملك اليوم مفاتح العلم وإجابة المسائل بضغطة زر، ليس كمن كان يقطع البوادي بالراوحل ليحصّل حديثاً واحداً! كما قد تتغير الفتوى بتغير الأزمان، كذلك تتسع المسؤولية بما يفتح الله من سعة في أدواتها، فلا يستوي الأعمى والبصير، والقادر والمقعد، والمقتدر والفقير... إن مسألة الاستطاعة شيء واختيار إهدار هذه الاستطاعة شيء آخر تماما. وتوقفك عن طلب العلم أو وسائل تحصيله خشية أن تزيد الحجة لا يسقط أصلها، فالحجة قامت عليك بعقلك واستطاعتك.

توقفك عن طلب العلم أو وسائل تحصيله خشية أن تزيد الحجة لا يسقط أصلها، فالحجة قامت عليك بعقلك واستطاعتك

ثم إن خشية الحجة لا يحلها الهرب منها! لماذا لا ننتبه أن الهروب ليس حلاً؟ وأن تولية الظهر لأمر لا يلغي وجوده؟ يقول ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسير آية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]: "ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر، بل على تركهم له. فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف" ا.هـ

فإذن مجرد ترك البر خشية مسؤوليته، أو اختيار الهروب من المواجهة لا يحل الإشكال الذي تركته أو هربت منه، بل لعلك بذلك تضاعف على نفسك تبعة التقصير والتفريط.

عدم العمل بالعلم إشكال يتطلب العمل لا التوقف، ولعل العمل المطلوب يكون في تغيير نوع العلم الذي طلبته أو درجته أو كيفيته. إن صم أذنيك عن سماع أنفاسك التي تتردد إلى انقضاء، أو إغماض عينيك عن تتابع الليل والنهار إلى ختام، لن يغير من حقائق الأمور شيئا، والحجة قائمة قمت بها أم قعدت دونها.

2. حاولت وفشلت!

ما قولك فيمن بذر بذرة شجرة، واستمر في تعهدها بضعة أيام أو أسابيع، ثم ملّ الانتظار واستبطأ نمو الشجرة، فتركها متذمرا أنها غير ذات جدوى؟!

إن العقيدة التي يؤمن بها المرء هي بذور من القناعات، تُغرس في فكره وتُورِق في وجدانه فتثمر في حركته. فالذي يستعجل صور الحركة قبل وقر البذرة كمن يريد أكل العجين قبل أن يختمر. ولذلك السر في بهتان أفعالنا وتذبذبها أننا لا نتعاهد عقيدتنا قناعة ومفاهيما ووعيا وعقلا وتدبرا، وبالتالي يكون الجيشان الشعوري دائما فورة مؤقتة بحسب السياق الذي هيجها ثم تخمد.

السر في بهتان أفعالنا وتذبذبها أننا لا نتعاهد عقيدتنا قناعة ومفاهيماً ووعياً وعقلاً وتدبراً

إننا نحاول مرة، ثم حين لا نصل لصورة معينة اخترعناها في رؤسنا نحبط ونتوقف ، وربما نعاود نفس الكرة لاحقًا.وبين كل محاولة ومحاولة خط مستقيم من الخمول والهمود والإحباط، وبالتالي في كل مرة نعيش منحنى أعلى القمة ثم أدنى القاع ثم الركود الكاسح!

إن الذي يبتغي الوصول لثمرة اليقين لابد أن يعتصم بالصبر ويتسلح بدوام التذكرة، لأن في التكرار عبرة، وفي كل عبرة جَدَّة، وفي كل تأمل وتدبر فرع جديد يورق في الوجدان. بذلك فقط تصير العقيدة حية في نفس صاحبها، ويغدو إيمانه مزهرا متجددا. ولذلك كم من شباب في العمر شاخ إيمانهم لعدم تعهده أو تعجل ثماره قبل حسن غراسه.

3. أتعلم كثيرًا ولا أطبّق بنفس القدر

قبل أن تتعجل العمل بالعلم، تأكد أنك علمت حقيقة وليس فقط عرفت، وأن هذا العلم رسخ في فكرك قناعة وأثمر في وجدانك تدبرا وتفكرا فيه. هذه حقيقة العمل بالعلم، أما صور الحركة التي تنشأ بعد ذلك فهي تنشأ تَبْعاً وانعكاسا بالضرورة ليس إلا، لما وقر في القلب بداية فكرا ووجدانا.

قبل أن تتعجل العمل بالعلم، تأكد أنك علمت حقيقة وليس فقط عرفت، وأن هذا العلم رسخ في فكرك قناعة وأثمر في وجدانك تدبراً وتفكراً فيه

هل سمعت عن دواء مهما بلغت قوته يدوم أثره من مرة واحدة؟ أو عن بقعة في قماش زالت بمجرد غمسها غمسة يسيرة في الماء ثم رفعها؟ لابد من النقع: لابد من الدوام ولابد من الصبر والمصابرة. ثابر على حلق العلم ومجالس التذكرة بهدف تجديد يقظتك وتعميق قناعاتك ووصل إيمانك بأسباب الحياة، العمل الذي تنشده والحركة التي تتعجلها تولد بالفعل في رحم تلك المثابرة لا خارجها.

العمل تصديق، ولا تصديق بغير صدق، ورأس الصدق دوام الاستعانة بالله ودوام الصبر على أمر الله. وكم ندّعي الاستعانة بالله ثم نغفل حقيقة أن الأمر كله بيد الله، وأنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه أو يهديه من الظلمات إلى النور. لا حول ولا قوة إلا بالله تعني أنه لا انتقال من حال إلى حال إلا بالله، ولا قدرة على تلك النقلة إلا بالله. مثابرتك وصبرك ودعاؤك وتوسلك لله أن يعينك ويصلحك.. هذا عين العمل الذي نغفله، وبالتالي لا نحن فقهنا العلم ولا رزقنا العمل. فالله لا يعاتبنا على ضعفنا وهو الذي خلقنا كذلك: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، لكن على استغنائنا عنه مع فقرنا إليه، وإعراضنا عنه مع ضعفننا دونه، واتكالنا على عملنا وأنفسنا وإرادتنا مع أنه لا قوة إلا به.

في المرة القادمة التي تهم فيها بالفرار، فر إلى الله لا منه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

لماذا أُخفيت ليلة القدر؟ دروس إيمانية وحكم ربانية

إن من الحكم الإلهية في بعض التشريعات عدم تحديد أوقات بعض العبادات والطاعات بدقة، ومن …