بعد الثورة الفرنسية بفترة وجيزة، وقف رجل الدين البروتوستانتي، رابو سانت اتيان، أمام جلسة للجمعية التأسيسية الفرنسية، كانت تناقش البنود الخاصة بحرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير؛ لكي يطرح قضية كانت شديدة الأهمية في ذلك الحين، وهي دمج الفرنسيين غير الكاثوليك في مختلف مفاصل المجتمع والسلطة في فرنسا الجديدة في ذلك الحين، من دون النظر إلى مذهبهم.
كان هذا المشهد التاريخي، هو أحد المشاهد المتأخرة التي جاءت لكي تضع نهاية لأحد أسوأ ألوان الصراع الديني في التاريخ، وهو ما يعرف بالحروب الدينية الأوروبية، التي استمرت طيلة القرون الوسطى، وبالذات في القرنَيْن السادس عشر والسابع عشر الميلاديَّيْن، بعد ظهور حركة الإصلاح الديني البروتوستانتية، على يد الراهب الألماني مارتن لوثر.
ومن بين هذه الحروب الدينية المتعددة التي نشبت بين الكاثوليك والبروتوستانت، حروب فرنسا الدينية التي استمرت خلال الفترة من العام 1562م، وحتى العام 1598م، وراح ضحيتها قرابة أربعة ملايين نفس بشرية، بسبب رفض الآخر وعدم التسامح معه.
من بين الحروب الدينية المتعددة التي نشبت بين الكاثوليك والبروتوستانت، حروب فرنسا الدينية التي استمرت خلال الفترة من العام 1562م، وحتى العام 1598م، وراح ضحيتها قرابة أربعة ملايين نفس بشرية، بسبب رفض الآخر وعدم التسامح معه
وبعد معاهدة ويستفاليا في العام 1648م، والتي أسست للدولة القومية الحديثة في أوروبا؛ خاضت الدول الأوروبية صراعات عدة فيما بينها، كان الدين والمذهب جزءًا منها، وإن كان الرداء الأساسي لها، هو صراعات النفوذ والمصالح والقوميات.
وأبسط دليل على ذلك، هو ما نجده في التاريخ من حروب نشبت في القارة وخارجها بين القوى والدول التي استمرت على المذهب الكاثوليكي وبين القوى والدول التي كانت على المذهب البروتوستانتي، وأن التحالفات بين هذه القوى والدول كانت تضم أصحاب المذهب الواحد، بينما كان كلاهما من خصوم الأمم المسيحية التي تنتمي إلى الكنائس المشرقية.
يجيء هذا المفتتح لأهميته في ظل تجدد الحديث في الوقت الراهن عن قضية حوار الأديان والحضارات، وما تتصل به في صدد قيمة التسامح والاختلاف.
ولقد كان لتولي بابا الفاتيكان، البابا فرانسيس، لمنصبه هذا في العام 2013م، أثرٌ كبيرٌ في إعادة قضية حوار الحضارات، وإشكالية التسامح والتعاطي مع المخالِف، إلى فضاء الحديث على المستوى الرسمي والأكاديمي في الأوساط الدينية والسياسية الإسلامية، وخصوصًا في أوساط كانت على قدر من الاهتمام بهذه القضية، مثل الأزهر الشريف في مصر.
وكانت الزيارة الأخيرة التي قام بها البابا إلى مصر، ولقاءه مع الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وجولات هذا الأخير التي سبقت هذه الزيارة أو تلتها، إلى عدد من البلدان الغربية؛ مفتاحًا مهمًّا لتجدد هذا الحديث الذي هو أقرب إلى الجدل الخلافي؛ حيث الكثير من الاعتبارات السياسية و – الأهم – العقيدية، التي تقول بأنه لا يمكن الوصول به – هذا الحوار – إلى المستوى الذي يتصوره أصحاب النظرة المثالية.
ويعود ذلك إلى العديد من الأمور التي تعايشها الأمة العربية والإسلامية على وجه الخصوص، باعتبار أنها الطرف الأصيل الأول في هذه الدعوات إلى الحوار.
فالماصدق العملي أو الواقعي للجهود الحالية المبذولة من أجل إنجاح "حوار الأديان" أو "حوار الحضارات"، إنما هو بالأساس أواصر العلاقة بين الحضارة الغربية التي تستند إلى الديانة المسيحية في منظومتها العقيدية والقيمية والاجتماعية، والحضارة العربية الإسلامية، التي يشكل الإسلام مكونها الأساسي.
ومن بين هذه الأمور، استمرار #الغرب في سياساته العدوانية التي بدأها منذ ظهور الدولة الإسلامية الأولى في شبه الجزيرة العربية، عندما تحركت الدولة الرومانية والدويلات والإمارات المسيحية الحليفة لها في بلاد الشام وعلى أطراف شبه الجزيرة العربية، مبكرًا، فكانت غزوتا "مؤتة" و"تبوك".
وإذا كان العالم الإسلامي لم ينسَ للآن الحملات الصليبية التي هبت ريحها الخبيثة عليه في خاصرته الأهم، فلسطين وبلاد الشام وآسيا الصغرى ومصر، لقسمه إلى جناحَيْن متباعدَيْن، بالرغم من أنها قد مرَّ على آخرها حوالي ثمانية قرون؛ فإنه من باب أولى التأكيد على أن إرث الاستعمار الغربي في بلدان الأمة في الوقت الراهن، والذي لا يزال حيًّا ومؤثرًا، يشكل أكبر عقبة في طريق إصلاح ذات البَيْن.
فالصراعات الراهنة بين الدول العربية والإسلامية؛ نشأت بسبب فِعْل الاستعمار الأوروبي ثم السياسات الأمريكية بين ظهرانينا.
والصراعات الحدودية، جاءت بسبب ترسيم الدول المستعمِرة السابقة لها بالشكل الذي يضمن حدوث هذه الصراعات بين الدول المختلفة، من أجل إضعافها وشغلها.
كذلك الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية التي نراها في أماكن عدة من العالم العربي في الوقت الراهن، جاءت بسبب السياسات الاستعمارية – والمستمرة بصورة أو بأخرى للآن – لإثارة النعرات الشعبوية والطائفية والمذهبية الضيقة بين شعوب الأمة، وبين المسلمين ومسيحيي المشرق، المستهدفين بدورهم بهذا المخطط.
والدور الأوروبي الغربي واضح تمامًا في إسقاط الدولة العثمانية التي كانت تمثل الإطار السياسي الجامع لكل شعوب المنطقة، وكان يضمن معالجة الخلافات فيما بينها في إطار كون هذه الشعوب إنما هم رعايا دولة واحدة.
وحتى وقتنا الراهن، كيف يمكن تصوُّر نجاح دعوات حوار الحضارات، بينما جرائم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، موجودة في كل مكان من بين ظهراني الأمة، من أفغانستان شرقًا، وحتى نيجيريا ومالي غربًا، مرورًا بالعراق وفلسطين والصومال.
وفي مرحلة ما بعد ما يُعرَف بالربيع العربي، نجد الغرب شريكًا أساسيًّا في الجرائم الحالية التي ارتكبتها أنظمة وحكومات قمعية ضد شعوبها، بدعم هذه الأنظمة، وعدم الضغط عليها بالشكل الكافي.
وفي سوريا وليبيا على وجه الخصوص؛ يبدو الغرب راضيًا أتم الرضا عن استمرار الحروب الداخلية في هذه البلدان، بل ويعمل على تغذيتها بشتى السُّبُل، باعتبار أنها فرصة مهمة لاستمرار الأزمات الداخلية للأمة، وبالتالي، تعطيلها عن أية مشروعات للنهوض الحضاري والوحدة، ويجدون في ذلك دعمًا من عدد ليس بقليل من الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية.
عائق آخر يقف في هذا الصعيد، وهو الصورة الذهنية للعرب والمسلمين، والتي رسمها غير المنصفين من المستشرقين عن العرب والمسلمين، كـ"أمم وحشية" خاملة، بينما الإنتاج الحضاري العربي والإسلامي، كان وراء النهضة الأوروبية الحالية منذ بدء خروج القارة العجوز من عصورها المظلمة.
من عوائق الحوار بين المسلمين والغرب، الصورة الذهنية للعرب والمسلمين، والتي رسمها غير المنصفين من المستشرقين عن العرب والمسلمين، كـ"أمم وحشية" خاملة، بينما الإنتاج الحضاري العربي والإسلامي، كان وراء النهضة الأوروبية الحالية منذ بدء خروج القارة العجوز من عصورها المظلمة
وبالتالي؛ فإنه لا يمكن للرأي العام الغربي الذي تربى على أساس أفكار أن العرب والمسلمين "همج" و"متوحشون" و"غير حضاريين" وغير ذلك من الأفكار السلبية، أن يقبل بدوره حوارًا مع هكذا أمم.
بينما العكس هو الصحيح؛ فمهما حصل في عالمنا العربي والإسلامي من صراعات؛ لا يمكن أبدًا قياسه لا على المستوى الزمني ولا على مستوى عدد الضحايا، بما وقع في أوروبا؛ حيث مئات الملايين من البشر سقطوا ضحايا عدم التسامح وقبول الآخر كما في الحروب الدينية.
ولكننا الآن نرى كيف تصوِّر الحملات الإعلامية التي تتناول سياسات وأنشطة تنظيمات غامضة المنشأ والهوية، مثل تنظيم الدولة "داعش"، وتصورها على أنها هي الإسلام ولا شيء سواها!
كذلك، لا يمكن بحال أن نتصور نجاحًا لحوار حضاري يتجاوز الحركة الإسلامية الوسطية بمرجعياتها المختلفة، والتي هي متهمة الآن بـ"الإرهاب" من جانب حكوماتها وحكومات الدول الغربية.
فالحركة الإسلامية، بمختلف تلاوينها، تسيطر على بل وتمثِّل شريحة عريضة من الشارع العربي والمسلم، سواء في العالم العربي والإسلامي، أو في أوروبا والولايات المتحدة ودول العالم الأخرى.
وهنا يبدو من الواضح أن ديناميات عملية "حوار الحضارات والأديان" تكاد تقتصر على الأزهر الشريف وبعض المؤسسات الإسلامية الأخرى، من دون باقي الأطر المؤسسية التي تعبر عن المسلمين في العالم كله، وهو في أبسط معانيه؛ يؤكد على أنه ليس حوار حضارات، وإنما حوار حكومات وقوى سياسية ذات طابع رسمي.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن نجاح هذه المسألة يقتضي جهدًا طويل المدى، يبدأ بنبذ الغرب لماضيه الاستعماري، والعمل على إصلاح ما أتلفه من خلال دعم خطط الانتقال السياسي لحكومات ديمقراطية، ودعم التنمية وقيم حقوق الإنسان والحَوكَمَة.
نجاح جهود ما يعرف بـ"حوار الحضارات"، يقتضي جهدًا طويل المدى، يبدأ بنبذ الغرب لماضيه الاستعماري، والعمل على إصلاح ما أتلفه من خلال دعم خطط الانتقال السياسي لحكومات ديمقراطية، ودعم التنمية وقيم حقوق الإنسان والحَوكَمَة، ودمج كل المكوِّن الإسلامي فيها
بالإضافة إلى تحسين طريقة التناول الإعلامي لقضايا العالم العربي والإسلامي، ورسم صورة ذهنية مخالفة – حقيقية – للعرب والمسلمين، وتنقية كتب المستشرقين من الشبهات والمزاعم الموجودة فيها، والاعتراف بالفضل الحضاري للحضارة الإسلامية على العالم، ودمج جميع الأطراف بما فيها الحركات الإسلامية المختلفة التي تحمل مشروعًا حضاريًّا، في هذا الحوار.
ومن دون ذلك؛ يمكن القول إن الأمور سوف تظل تدور في سياق اللقاءات والتصريحات البروتوكولية، من دون كبير فاعلية، في السعي إلى تحقيق الهدف الرئيسي من وراء ذلك الجهد، وهو تعزيز قيم السلام والتسامح والحوار في العالم.