روى أبو داود وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت».
والوهن معناه في الحديث كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا وكراهية الموت.
والوهن معناه في المعجم: الضعف والفتور.
وإذا تتبعنا تاريخ الأمة الإسلامية كله من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا الراهن فلن نجد وهناً عاشته الأمة مثل ذلك الوهن الذي نعيشه اليوم، وهو الوهن بمعنييه، حب الدنيا وكراهية الموت كما جاء في حديث النبي، والضعف والفتور كما يجيء في معاجم اللغة.
إذا تتبعنا تاريخ الأمة الإسلامية كله من بعثة النبي محمد عليه السلام إلى يومنا الراهن فلن نجد وهنا عاشته الأمة مثل ذلك الوهن الذي نعيشه اليوم
والرابط بين المعنيين كبير ووثيق، فحب الدنيا وكراهية الموت هو الذي يورث الضعف والفتور والجبن، ولا يورث الشجاعة والإقدام مثل حب الموت في سبيل الله، والتعفف والتعالي عن الدنيا وسفاسفها.
كما أن الناظر في تاريخ الأمة سيجد أنها قد عاشت الوهن في أزمنة عدة ومحطات كثيرة في تاريخها، لكنه لم يكن وهناً مثل ذلك الذي نعيشه اليوم، لا في قدره ولا في انتشاره وسطوته.
عندما جاءت الحروب الصليبية (490_ 670هجريا، 1096_1272ميلاديا)، لم يكن الوهن حالة عامة للأمة الإسلامية كلها، بل كانت هناك دول تصارع من أجل دين الأمة ومجدها وكرامتها، فكانت الأندلس في الغرب (711 _ 1492ميلاديا)، وكان في الشرق قادة أشاوس أمثال عماد الدين زنكي (1087_ 1146 ميلاديا) وابنه نور الدين محمود (511_ 596هجريا، 1118 - 1174ميلاديا)، ومن بعدهم صلاح الدين الأيوبي (532_589 هجريا، 1138_1193ميلاديا).
الناظر في تاريخ الأمة سيجد أنها قد عاشت الوهن في أزمنة عدة ومحطات كثيرة في تاريخها، لكنه لم يكن وهنا مثل ذلك الذي نعيشه اليوم، لا في قدره ولا في انتشاره وسطوته
وعندما جاء التتار والمغول وأسقطوا بغداد (656 هجريا، 1258 ميلاديا) كانت الأندلس ما تزال أندلسا، وكانت الإمبراطورية الإسلامية العثمانية (1299_ 1923 ميلاديا) تولد في الأناضول على يد أرطغرل بن سليمان شاه (1191_1281 ميلاديا)،
وكان ظهور القادة العظام لمماليك مصر، سيف الدين قطز (تولى الحكم 657 هجريا، 1259 ميلاديا)، والظاهر بيبرس (تولى الحكم 659هجريا_1260ميلاديا).
وعندما جاءت حركة الاستعمار الأوروبية الحديثة في البلدان العربية والإسلامية ظهرت الثورات الإسلامية العربية في جل البلدان، فكانت الثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسي، وكانت الثورة الليبية وبطلها عمر المختار، وكانت الثورة الفلسطينية ومفجرها عز الدين القسام، وغيرها.
أما اليوم، فنحن أمام الوهن الأكبر في التاريخ العربي والإسلامي.
لم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن أعملت يد أعدائها المجازر فيها هنا وهناك، وكل دول الأمة وأنظمتها خانعة ذليلة منتكسة، تخاف أن تُلحظ لها حركة أو يُسمع لها صوت، بل إن الكثير من هذه الدول وأنظمتها بادرت بتقديم العون للمعتدي الغازي طلبا لرضاه وتحاشيا لسخطه وغضبه، وذلك كما حدث في غزو أمريكا للعراق وأفغانستان.
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن تُركت المقدسات ليدوسها الأعداء كل يوم بهذه الطريقة، وليقتلوا المسلمين على أعتابها، وليقتحمها جنودهم وآلياتهم في كل يوم، ولا نجد دولة واحدة ولا نظاماً واحداً يقول كلمة واحدة، اللهم إلا ما كان من النظام التركي والقطري في الاقتحام الأخير للمسجد الأقصى وإغلاقه أمام المصلين.
لم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن تُركت المقدسات ليدوسها الأعداء كل يوم بهذه الطريقة، وليقتلوا المسلمين على أعتابها، وليقتحمها جنودهم وآلياتهم في كل يوم
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن يقدم عدو على حصار بلد عربي إسلامي، فتخنع البلاد العربية والإسلامية كلها، بل وتساعده بعضها، وذلك كما يحدث للفلسطينيين في غزة من حصار "إسرائيلي" مصري، بل وتدور الحرب بين الصهاينة والفلسطينيين بين الحين والآخر، فتتحدث التسريبات والتقارير عن دعم مصري لليهود ضد الفلسطينيين لمجرد الخلاف السياسي مع حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة.
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن تتهافت البلدان والأنظمة لموالاة الأعداء والخصوم إلى حد دفع الأموال الطائلة جبناء صاغرين من أجل شراء الموالاة وإبعاد الضرر والشرر. وفي الحين ذاته تجتمع هذه الأنظمة المهرولة ناحية العدو بالورود والرياحين، تجتمع على حصار دولة عربية وإسلامية وجارة، لا لشيء إلا لأنها وقفت مع تطلعات الشعوب ناحية الكرامة والحرية، ودعمت حركات المقاومة والجهاد، ضد آلة البطش والاحتلال الصهيونية ومن ورائها الأمريكية.
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن أقدم طاغية من طغاتها على قتل شعبه وتهجيره وتدمير بلاده مثلما يحدث الآن من طاغية سوريا، والأمة كلها غارقة في سباتها وجبنها وخورها، إلى حد أن تتدخل دول العالم من الشرق والغرب في هذه المحنة، ولا تتدخل دولة عربية وإسلامية واحدة.
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية اجتماعاً على معاداة المنهج الإسلامي ورجاله الحاملين له، إلى حد أن تتمالأ عليه وعلى حملته كل الأنظمة العربية والإسلامية تحت ادعاء محاربة الإرهاب، فيجعلون بذلك ذلك المنهج الإسلامي ورجاله العدو الأول لهم، في حين يقتلهم ويستبيحهم ويذلهم الأعداء الحقيقيون من الغرب والشرق في كل مكان وفي كل ناحية.
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية أن غابت المنهجية الإسلامية في الحكم والحياة كما هي اليوم، إلى حد أن تقدم الأنظمة الحاكمة على تغيير مناهجها التعليمية يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، فتحذف كل ما له علاقة بمنهجية الإسلام وأسس الإسلام وروح الإسلام، وذلك بإملاء الأعداء والخصوم.
ولم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية هذا الخنوع والذل من كل البلدان والأنظمة أمام الأعداء والخصوم، وهذا التواطؤ والخيانة منها، وهذا الجبروت والطغيان من كل البلدان والأنظمة على شعوبها وأبنائها، وهذا الاجتماع والاتفاق والتعاون على قمع الشعوب وسلب حرياتها وقتل كل تطلع وليد للحرية والكرامة ومعاداة أصول الأمة ومنهجيتها العقائدية والتاريخية.
إنّ أظلم الليل تعقبه تباشير الصباح، وإن ذروة الشيء هي بداية نهايته
إن الذي نعيشه اليوم هو بحق الوهن الأكبر في تاريخ الأمة العربية والإسلامية، وهو حال له ما بعده، فإنّ أظلم الليل تعقبه تباشير الصباح، وإن ذروة الشيء هي بداية نهايته، ونحن أمام موعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، وأغلب الظن أننا على أعتاب ذلك الموعود، فإن لم نكن على أعتابه فنحن على أعتاب أعتابه.