من بين أهم المشكلات التي يعاني منها المسلمون في العصور الأخيرة من تاريخ الأمة، هو فقدانهم للكثير من المفاهيم المعرفية الأساسية حول دينهم وشريعتهم.
وتشمل هذه النوعية من الأُمِّيَّة الخاصة جدًّا؛ عدم معرفة شرائح ضخمة للغاية من المسلمين، بدقائق شريعتهم، ومفاهيم أساسية في الدين، مثل الإيمان، ومكوناته التي تتجاوز في حقيقة الأمر، العقيدة لكي تشمل معها أمورًا أخرى عدة.
والمدهش أن هذه الظاهرة، أكبر منها في أوساط أبناء المجتمعات المسلمة، وليس في أوساط المسلمين الجدد، في المهاجر؛ حيث هؤلاء يتلقون المعارف الدينية بشكل سليم ومتطور، مع كون المؤسسات والأشخاص القائمين على الدعوة في هذه البلدان، يتحركون في إطار أكثر حداثية في آلياته ومفاهيمه، وكذلك بعيدًا عن تأثيرات الحكومات والأنظمة الاستبدادية الموجودة في مجتمعاتهم الأصلية وأوطانهم الأم.
ويعود قسم مهم من هذه المشكلة إلى العامل الأخير؛ المتعلق بالحكومات والأنظمة الاستبدادية التي تسيطر على الحكم في الغالبية العظمى من بلدان العالم الإسلامي؛ حيث إن جزءًا من سياساتها لأجل السيطرة على الحكم، يأتي من تعمُّد تجهيل الشعوب والمجتمعات، من أجل تسهيل قيادها.
وأهم مجالات "الاهتمام" في هذا الجانب من طرف الأنظمة والحكومات التي أشرنا إليها، تغييب الشعوب عن حقوقها والمطالبة بها، وتغييبها عن دينها وشريعته، التي تُعتبر من أهم محركات النفس الإنسانية لفهم أخطاء الواقع، من خلال مقارنته مع النموذج المثالي، وفهم كيفية تغييره، وكيفية إصلاحه.
وفي حال حدوث ذلك؛ ستكون الأنظمة والحكومات المستبدة خارج السلطة بطبيعة الحال.
وبالتالي؛ فإنه من بين الضحايا الحقيقيين لهذه السياسات من جانب هذه الأنظمة والحكومات، التربية والتنشئة الدينيتَيْن في المدارس ومختلف المسارات التعليمية، وعلى المنابر.
وتُعتبر عملية التدُّبر في القرآن الكريم، من أهم منافذ معرفة الإنسان بشريعة الله عز وجل، ومقاصده منها.
تُعتبر عملية التدُّبر في القرآن الكريم، من أهم منافذ معرفة الإنسان بشريعة الله عز وجل، ومقاصده منها
وفي القرآن الكريم، الكثير من الخيرات التي لو طُبِّقت؛ لكان للمجتمعات المسلمة شأنًا آخر مع النهضة الاقتصادية والتقدم المجتمعي.
وسيكون من المستغرب أن نشير إلى أن القرآن الكريم يخبرنا أنه من صميم الإيمان بالله عز وجل، هو العمل المجتمعي وخدمة الناس، وعلى رأس ذلك، #التكافل الاجتماعي، الذي يُعتبر أحد أهم أركان وأعمدة النظام الاقتصادي والاجتماعي في الإسلام.
وأبلغ دليل على أهمية هذا الركن أو العمود، أنه يُعتبر أساس نجاح النظام الرأسمالي الغربي في تطوير ذاته، وتأسيس مجتمعات ودول قوية، بعد أن عدَّلت، في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، من آلياتها، في إطار ما يُعرَف بالرأسمالية الاجتماعية "Social capitalism"، وتفادت –بالتالي– أن تنهار أمام الشيوعية الصاعدة في ذلك الحين بقوة، استغلالاً للخطايا الكبرى للرأسمالية في صورتها الأولية الخام، في المجال الإنساني والاجتماعي.
ولكن كيف ذلك؟!..
مبدئيًّا، نجد في القرآن الكريم، الكثير من الآيات التي تدعو إلى التكافل الاجتماعي، وإعطاء المساكين، بل وجعل الله تعالى ذلك في عقيدة المسلم، ذلك جزءًا لا يتجزأ منها، عندما فرض الزكاة كأحد الأركان الخمس التي بُني عليها الإسلام، مع شهادة التوحيد، والصلاة والصوم والحج.
وفي القرآن الكريم، نجد أن الله تعالى يقول: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [سُورة "الذاريات"]، بينما في سُورة "المعارج"، نجده يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}.
وذكر المفسِّرون أن المقصود بالأولى "الصدقة"، وبالثانية، "الزكاة" المفروضة عندما قال: "حَقٌّ مَّعْلُومٌ"، بينما في الأولى وقف عن كلمة "حَقٌّ" فقط، وفي كلا الحالتَيْن؛ فإن الله تعالى جعلها حقًّا على المسلم للآخرين والمجتمع.
والملاحظ في كلا المساقَيْن القرآنيَيْن، أن العطاء للفقير والمحروم، جاء في سياقات عقيدية؛ حيث وضع ضمن صفات المؤمنين، وذات الأولوية كذلك.
ففي سورة "المعارج"، جاء ذلك بعد الصلاة مباشرة، والتي هي الفارق بين الإيمان والُكفر لدى المسلم.
في المقابل، جعل الله تعالى، من بين صفات الكافرين وسماتهم العامة، ترْك العمل الخيري، وخدمة المجتمع.
ففي سُورة "الماعون" يقول الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}.
كل هذا وغيره من الآيات القرآنية الكريمة، تؤكد أن العمل المجتمعي أمرٌ أكبر من أنه جانب تطوعي في نشاط وحِراك الإنسان وسعيه في هذه الحياة؛ حيث من الجلي أن الله تعالى وضع الإيمان –الذي هو في الأصل الهدف والغاية من وراء الرسالات التي أنزلها– صنو العمل الاجتماعي ومساعدة الناس.
وفي أسباب النزول، يقول مقاتل والكلبي، إن الآيات نزلت في العاص بن وائل، أما ابن جريج، فقال إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه؛ حيث كان ينحر في كل أسبوع جملَيْن، وكان يبغي من وراء ذلك، الوجاهة الاجتماعية، ويخاطب بالأساس علية القوم في مكة المكرمة.
وذات يوم أتاه صبيٌّ يتيم، وسأله شيئًا ليأكله، فضربه بالعصا، فأنزل الله تعالى الآيات الأولى من السورة.
ويقول صاحب الظلال، الأستاذ سيد قطب (رحمه الله)، في هذه السُّورة، على هذا النحو: "سُورة الماعون، سُورة قصيرة من آيات سبع، تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلاً كاملاً. فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة، والخير العظيم المكنون فيها لهذه البشرية، والمرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم الرسالة الأخيرة".
ويضيف أنه من بين دلالات هذه الآيات أن هذا الدين "ليس دين مظاهر وطقوس، ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقي".
لابد من التأكيد على أن العمل المجتمعي ليس من نافلة القول؛ بل إنه ضرورة عقيدية، كما أنه له دور شديد الأهمية في تأليف قلوب الجماهير على الحركة الإسلامية، وبالتالي، الحصول على تأييدها ودعمها
وفي الأخير؛ يبقى أن نشير إلى أنه من الضروري التأكيد على أنه من المهم العمل على غرس هذه الأفكار في نفوس الجيل الجديد من شباب الحركة الإسلامية، والتأكيد على أن العمل المجتمعي ليس من نافلة القول؛ بل إنه ضرورة عقيدية كما تقدَّم.
كما أنه –في الجانب الحركي– له دور شديد الأهمية في تأليف قلوب الجماهير على الحركة الإسلامية، وبالتالي، الحصول على تأييدها ودعمها، بنفس المنطق القائم في سهم المؤلفة قلوبهم، كأحد مصارف الزكاة كما ذكر القرآن الكريم في سُورة "التَّوْبة". يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}.