علينا أن نبدأ في الرد على سؤال "لماذا لا أستطيع التحكم في نفسي أو إدارتها بحزم؟"، بما يبين وجه الخطأ في هذا التساؤل وتصويبه.
بداية، من الأهمية بمكان في هذا الجهاد الدائب أن نتنبه لأمرين، أو بالأحرى لمرحلتين رئيسيتين:
1. الأولى مرحلة العلم، العلم بأصول التزكية ومداخل النفس وماهية ما يعتمل فيها. فالتعامل السديد مع أمر -أي أمر- فرع عن فهمه أولاً على حقيقته، وهذه المرحلة التي تكون فيها إجابات اللماذا والكيف:
• كيف تستثار الشهوات وكيف يستحكم #الهوى؟
• ولماذا الطاعات مكاره والشهوات لذات؟
• وكيف المدافعة؟ وما المغالبة؟
وهذه المرحلة هي التي بدونها يعيش المرء في شقاق وجحيم داخلي، لأن نفسه تبدو له دهاليز ضبابية، وميول الهوى ولذائذ الشهوات تكبله حتى يحسب أنه لا مفر منها، فتستعبده بعد أن كان هو طالبها. ومن جهة أخرى فمجرد التفكير في التزكية وما يتبعها من مشقة ليس بأقل رهبة، فيستسلم بالتالي لعبودية الهوى استسلام عاجز وناقم في آن معًا.
فلا هو استمتع بسَكَره وانتشى في خموله! ولا هو أفاق بعقله وقام بأمانته!
ومن جهة أخرى، فهذا الجهل –القابل لرفعه بالعلم- هو الشماعة الأولى لتعليق أعذار الاستسلام الكسول والعجز المفتعل عن المجاهدة. فصاحبه متعلق بمبررات: لا أعلم ماذا، ولا أدري كيف، ومن أين البداية... إلخ. والقاعدة أن وجود جاهل لا يعلم لا ينفي كون العلم موجودًا .
وآخر ما نوصّف به هذه المرحلة أنها أيسر ما يتجاوزه صادق الهم بفضل الله تعالى. بغض النظر عن مدى المنهجية أو طبيعة التلقي أو طول مدة التعلم، الله يكفيه كل ذلك في بداية الإفاقة بحسب صدق استعانته به وانطراحه على باب الرجاء والدعاء. فلا ريب أنه عند نقطة ما سترفع الغشاوة عن كل بحَسَبه. فيبين الله له ما ادّعى أنه استغلق عليه، ويمده بما يكفيه ليشرع في طريق العبودية الأصلي بدل تلك العبوديات الزائفة.
2. وهذا يقودنا للحديث عن المرحلة الثانية من معركة تزكية النفس، أو الجهاد الأكبر بالاصطلاح الأصلي، وفي هذا المصطلح جوهر الحل ولب الإشكال معا لو فقهنا. إن معرفة مداخل الهوى والعلم بمكامن الشهوة أمر، ومرحلة وفعلية مدافعة اتباع الهوى ومغالبة جواذب الشهوة أمر آخر، بل مرحلة أخرى تالية للسابقة.
إن معرفة مداخل الهوى والعلم بمكامن الشهوة أمر، ومرحلة وفعلية مدافعة اتباع الهوى ومغالبة جواذب الشهوة أمر آخر
• العلم سيقول لك كيف، لكن هذا لا يعني أنك ستكون قويا كفاية .
• العلم سيقول لك ماذا، لكن هذا لا يعني أن المشقة ستنتفي، أو أن النار ستحف بالمكاره، والجنة ستحف بالشهوات، أو أن الشهوة لن تعود زينة، والهوى لن يكون جذابًا.
ذلك أن غاية العلم بطبائع الأمور يعني أن تكون توقعاتك عند العمل معها موافقة لما هي عليه. فماذا تتوقع في معركة "جهاد" غير أنك ستجاهد؟! ومن الجهد إلا أن تكون فيه مشقة؟! ومن لوازم الجهد غير الصبر والمصابرة؟
وماذا تنتظر من اللذة العاجلة سوى أنها أشد إغراء من الآجلة.. وإلا كيف سميت "عاجلة"؟!
ومن طبيعة اختبار مدته عمرك كله ألا تسأم أو تمل أو تستعجل؟
ماذا تستعجل غير موتك؟ ومم تسأم وهذا زرعك؟ وفيم تمل إذا كنت ترجو حصاده؟
اختبار الحياة ليس ورقة امتحان ليوم أو ليلة أو شهر أو حتى بضع سنين. فإن هذه حياة كلها لا تراد لشيء غير عقيدة وجهاد.
فمن المخطئ إلا الذي يريد منها غير ما تراد له؟
ولا ينبغي الخلط بين "الاستزادة" من علوم التزكية ومعاملات النفس، و"بلوغ" القدر الكافي من الفهم الأول للخطوة الأولى. وهنا الإشكال الثاني: أن نظل دائرين في نفس حيرة الظلمة الأولى حتى بعد أن آتانا الله مشعلاً يكفي لنخطو خطوة. هذا وهم وعجز وتخاذل، وإن تلبس بلباس "مثالية" جوفاء! فإن الطريق لا يتضح إلا لسائر مهما كان عرَجُه ، وإن طريق الله معلوم بيّن بما يكفي للراغب صدقًا، وثماره لابد واصلة للصابر صدقًا، لكننا نستعجل ثمار القمة بمجرد خطو الخطوة الأولى! بل لعلنا نتذبذب حتى في هذه الخطوة الأولى، متحججين بالمئة خطوة مما لا نرى بعد، عن الخطوة الوحيدة التي اتضحت الآن! ونظل نتوهم الضبابية والحيرة - التي بدأت صادقة - ونصر أن المشكلة مشكلة علم، غير منتبهين للفارق بين جاهل علم، ومتعلم راغب في الاستزادة:
• الأول العلم شرط لتقدمه
• والثاني تقدمه شرط لتعلمه
إن طريق الله معلوم بيّن بما يكفي للراغب صدقًا، وثماره لابد واصلة للصابر صدقًا، لكننا نستعجل ثمار القمة بمجرد خطو الخطوة الأولى
لكننا وقت الجهل نبكي طالبين العلم لنعمل، فإذا علمنا بقدر وحان وقت العمل بقدره، عدنا نتباكى متوهمين الحاجة لمزيد علم، فلا تزيدنا كثرة العلم إلا انشغالًا عن العمل، وشقاء بما صرنا نعي فنبتعد!
إذن السؤال ليس: لماذا لا تستطيع إدارة نفسك بحزم؟
لأنك من حيث الاستطاعة بمعنى القدرة والقابلية، قد خلقت لهذا الجهاد، ورُكّبت نفسك تركيبًا مخصوصًا لتحقيق مقاصده ومقاصد امتحان هذه الدار. وهذه الاستطاعة لا تنافي أبدًا وجود مشقة متلازمة مع طبيعة الجهد، كما لا تنافي أنك قادر على تحمل تلك المشقة واجتيازها مستعينا بالله وسالكًا ما بينه من وسائل وأسباب. فالطريق واضح، بأعوانه وأعدائه؛ وأنت مجهّز بأدوات الاستبصار من عقل يتعلم وفؤاد يستعين.
إنما السؤال الصحيح: هل حقًا تريد؟ هل عزَمتَ جادًا؟
لأنك إذا أردت حقًا وعزمت جادًا، تهيأت لتحمل مسؤولية الالتزام بما أردت. مصداق قوله تعالى {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}. لو أرادوا لأعدوا، فإذا أردت حقًا، فلن تبرح حتى تبلغ، وإذا صحّ منك العزم هُديتَ لا ريب.
لذلك حين تضبط نفسك مترنحًا متأرجحًا متلئكًا، لا تسأل: لماذا لا أستطيع؟ وإنما: هل صدقتُ الإرادة؟ ولزمت ما عرفت؟
إضاءات ختامية:
1. حقيقة السبق لله ليست في اختراع عبادات جديدة وتكثير أوراد وأكوام علوم، وإنما في يقظة الاحتساب وصدق الانشغال بإرضاء مولاك.
2. اقطع أملك في أي طريق آخر، واتخذ الصبر صاحبك ورفيقك حتى آخر أنفاسك.
3. علق رجاءك وتطلعك بالله وحده مطلقًا، ولا ترج من مخلوق شيئًا.
4. كلما عرفت أمرًا الزمه ما استطعت، وابدأ بالأمور الصغيرة قبل الكبيرة، فتلك الصغائر هي تمحيص الصادقين.
5. وكل أمر تلزمه اجتهد أن تبلغ فيه أحسنه، فإذا كنت مصليًا فليكن أول الوقت، وإذا كنت متصدقًا فليكن بخير ما معك، وهكذا.
6. دع عنك هواجس المستقبل والقلق على ما تصل إليه ويصل إليك، فإن ربًا كفاك بالأمس ما كان يكفيك في غد ما يكون.
7. أقبل على حاضرك وأشغل نفسك بيومك، الآن فقط هو كل تملك وهو ما قد به يختم لك وعليه تبعث.
واللهَ نسأل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وصدق إرادة الصلاح