على نفس الخطى، تخطو دولة الاحتلال في تعاملها مع المسجد #الأقصى بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع المسجد الإبراهيمي في الخليل، الذي أحكمت سيطرتها عليه بالكامل، وبات منع الأذان، أو منع الصلاة فيه، وإغلاقه بوجه المصلين أمراً عادياً نسمعه بشكل دوري على نشرات الأخبار المختلفة.
واليوم لا يوجد أفضل من هذا الوقت ليطبق الاحتلال نفس السيناريو إن لم يكن أكثر خطورة، نظراً لما يمثله المسجد الأقصى من مكانة دينية عند المسلمين، وفي نفس الوقت بسبب الأطماع الصهيونية والمزاعم التي يبثونها حوله.
لكن السؤال الذي يتساءل عنه الناس باستمرار، ما السر وراء الرد الفلسطيني الباهت شعبياً - في المقام الأول- وسياسياً تجاه ما يجري في الأقصى؟ وهل هذا الشعب هو الذي أشعل الأرض لهيباً عام 2000 عندما أراد السفاح "شارون" أن يدنس الأقصى فكانت ردة الفعل انتفاضة عنيفة خلفت الآلاف من الشهداء، ناهيك عن خسائر بشرية ومادية كبيرة لدولة الاحتلال أجبرت مئات الآلاف منهم على الهروب من #فلسطين إلى دول أخرى؛ خوفاً على أرواحهم من ضربات الفلسطينيين التي طالما أوجعتهم وأبكتهم وضربت منظومة الأمن التي يتغنون بها!
والجواب أن لا عجب في ذلك، فحال شعب فلسطين عام 2000م، ليس هو الحال اليوم، فهناك العديد من الأمور التي تغيرت، وهناك مخططات استهدفت ثقافة الشعب ووعيه ، وأشغلته بقضايا هامشية على حساب القضية الرئيسة وهي قضية الاحتلال والتخلص منه.
وفي الوقت نفسه، فإننا نعيش في ظلال المحيط الإقليمي العربي المنبطح والذي بات يسعى لترويج فكرة التطبيع مع الاحتلال، حتى بتنا نرى مسؤولاً سعودياً تتم استضافته على قناة صهيونية، وبتنا نسمع من دول "عربية" أن حركتا حماس والجهاد باتتا نموذجاً للإرهاب الذي يوازي إرهاب "داعش والقاعدة" وغيرها، وصار استضافة قاداتها على الإعلام ذريعة لادعاء أنها معاداة للسامية والتسامح وداعمة للإرهاب والتطرف!
نعيش في ظلال المحيط الإقليمي العربي المنبطح والذي بات يسعى لترويج فكرة التطبيع مع الاحتلال
بتنا اليوم لا نميز بين تصريحات "نتنياهو" و "أدرعي" من جهة، و بين السفير "العربي" فلان أو الكاتب "العربي" فلان من جهة أخرى، وما يؤكد الأمر وجود مخططات كشفت عنها العديد من وسائل الإعلام وتناقلتها فيما بينها، عن مشروع خطير يستهدف تصفية القضية الفلسطينية وينسف ثوابتها ومقدساتها، ويشكل اعترافاً صريحاً بالمحتل بل ويعطيه شرعية لوجوده واستمرار مجازره وانتهاكاته.
وفي ظل ما تقدم، نعود للسؤال ذاته، ما الذي غيّر أحوال الشعب الفلسطيني، الذي كانت تثور ثائرته إذا استهدف الأقصى بدءاً من ثورة البراق، وحتى انتفاضة القدس الأخيرة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لا أقصد البتة أن أقلل من شأن شعبنا وتضحياته، أو أنشر حالة من الإحباط واليأس بين الآخرين، بقدر ما أريد أن أسلط الضوء على نقاط الضعف الموجودة حالياً، والتي أثرت بشكل كبير على ثقافة شعبنا المقاوم، واستمرارية معركته ضد الاحتلال، ويمكن أن أجمل هذه النقاط بالمحاور التالية:
1- السلطة الفلسطينية: مما لا شك فيه، أن السلطة الفلسطينية استطاعت وبدرجة كبيرة أن تدجّن نسبة لا بأس فيها من أبناء الشعب الفلسطيني، إما بالترغيب أو بالقهر والقوة ، وهذا بات واضحاً وملموساً لكل من يقارن بين مشهد عام 2000 والمشهد الحالي.
إن السلطة الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى، وما قدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات وعلى رأسهم العديد من أبناء الأجهزة الأمنية، أدركت أنها بحاجة إلى إعادة ترتيب الأوراق من جديد، ليس للحفاظ على الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، بل للحفاظ على وجودها أساساً قبل كل شيء! فقامت بمجموعة من الأمور، منها:
- إجراء الانتخابات البلدية والتشريعية، لإشغال الشعب بقضايا بعيدة عن قضية المقاومة والتحرر، ولما كانت النتائج على خلاف ما يريدون كان الاستهداف الواضح لكل الأشخاص الذين يمكن أن يشكلوا خطراً على الكيان الصهيوني، عبر الاعتقال والتعذيب والإجبار -بالتعاون مع الاحتلال-، على الهجرة والخروج من الأراضي الفلسطينية بعد التضييق عليهم، ومنعهم من تولي الوظائف والعمل بحرية.
- تصفية بعض الأفراد الذين ينوون القيام بعمليات مقاومة تجاه الاحتلال، والتعاون مع الصهاينة لإفشال أية عملية تستهدفهم وكان الدور جلياً في انتفاضة القدس الأخيرة. تحت مسمى التنسيق الأمني.
- تقسيم الأرض الفلسطينية سياسياً، واعتبار قطاع غزة قطاعاً متمرداً، وشعبها يستحق العقاب والتضييق واختلاق الأزمات بل وخصم رواتب الموظفين هناك، مما أثر على الوحدة الشعورية للفلسطينيين.
- قتل الحياة السياسية ومحاربة الحريات، من خلال سيطرة السلطة على كافة المنابر حتى الدينية منها، وإنشاء جهاز أمني خاص "أمن المؤسسات" يعنى بالتأكد من كل موظف أنه لا ينتمي بشكل واضح للفصائل المعارضة للسلطة خصوصاً حركة حماس. ناهيك عن عدم وجود أية فعاليات للحركات الفلسطينية المختلفة سوى تلك التي لا تملك زخماً جماهيرياً ولا تؤثر على السلطة بأي حال.
- إشغال الشعب الفلسطيني بقضايا جانبية على حساب القضية الرئيسية، حيث كانت الانتخابات البلدية الأخيرة، رغم ما تعانيه السلطة من شح في الموارد وضعف في الاقتصاد، بالإضافة إلى اختلاق أزمات تشغل بال الشعب الفلسطيني كأزمات الكهرباء في شمال الضفة الغربية، والمياه في جنوبها، وأزمة المعابر والكهرباء والوقود والصحة وغيرها في قطاع غزة.
قامت السلطة بإجبار الشعب على التعايش مع الاحتلال، من خلال فتح باب التقديم لنيل "تصاريح" دخول القدس، أو العمل في الداخل، مما يجعل الناس يحرصون على عدم القيام بأي أمر يلحق الأذى بالاحتلال
- إجبار الشعب الفلسطيني على التعايش مع الاحتلال، من خلال فتح باب التقديم لنيل "تصاريح" دخول القدس، أو العمل في الداخل، وفتح المجال تحت مسمى "التسهيلات" أو إنجازات للسلطة، مما يجعل الناس يحرصون على عدم القيام بأي أمر يلحق الأذى بالاحتلال، حرصاً على مصالحهم وأعمالهم أو ترفيههم! وكم كان الأمر صعباً حين تجد البعض ينتقد العملية التي قام بها الشهداء الثلاثة من أم الفحم، بحجة أنها ستمنعهم من زيارة المسجد الأقصى، فباتت قضية الزيارة طاغية على قضية التحرير!
2- الفصائل الفلسطينية: رغم أن السلطة الفلسطينية تتحمل المسؤولية الأكبر عن سوء الحال الذي وصل إليه الشعب الفلسطيني إلا أن هذا لا يخل الفصائل الفلسطينية من المسؤولية أيضاً عن هذه الأوضاع.
وتتمثل مسؤولية الفصائل بما يلي:
- غياب التنسيق المشترك بينها، خصوصاً في الضفة الغربية، فبعد أن قامت السلطة باستهداف حركة حماس بعد الحسم العسكري عام 2006، لم تبادر الفصائل الفلسطينية بتقديم أية مناورة لحماية ما تبقى من حريات سياسية داخلية، ولم تبد أي تعاون مع بعضها البعض للحماية من تغول السلطة، وبات كل فصيل لوحده يواجه الاعتقال السياسي ويتلقى سهام السلطة لوحده، مما قتل العمل السياسي لها فيما بعد.
- غياب الواقعية في التعامل مع الواقع، فالحسم العسكري كان عام 2006م، ومع ذلك لا نشاهد بعد 11 عاماً أي تواجد لحماس على سبيل المثال إلا في الحياة الجامعية خلافاً للحياة العامة. وهنا يحق لنا أن نتساءل ما هي الخطة التي اتبعتها الحركة بعد الهجمة الشرسة من السلطة عليها؟ هل اكتفت فقط بالانعزال والتفرج على ما يقوم به الإخوة في غزة والخارج؟
ألم تكن هناك أي خطط غير خطاب المظلومية والانسحاب من المشهد السياسي والاجتماعي وغيره في الضفة؟الحقيقة أن المسؤولين في الضفة لم يكونوا على قدر التحدي، ولم تكن هناك أية رؤى وبرامج للتعامل مع الواقع الصعب، فصعوبة المشهد وحجم التحديات، والتنسيق الأمني، لا يعفيني من واجبي ولا يجعلني أتوقف عن العمل بأي حال من الأحوال. وهذه النتيجة واضحة، فأنت بعيد عن الساحة، خصوصاً ساحة الضفة التي على تماس مع الاحتلال، والكفيلة بجعل حياته حجيماً إن قرر الشعب استهدافه.
صعوبة المشهد وحجم التحديات، والتنسيق الأمني، لا يعفيني من واجبي ولا يجعلني أتوقف عن العمل بأي حال من الأحوال
3- الشعب الفلسطيني: الشعب راح ضحية لعمالة السلطة من جهة، وسوء التعامل من قبل الفصائل من جهة أخرى، ناهيك عن غياب أية نخبة تستطيع أن تدير المشهد الداخلي المنحرف عن البوصلة، إما خوفاً أو تهرباً أو انعداماً للمسؤولية.
لكن في المقابل، فإن الشعب الفلسطيني لا ينقصه الوعي، فهو واعٍ بقضيته وتحدياتها، وقدم العديد من التضحيات، ولا تجد حياً في فلسطين إلا قدم العديد من الشهداء والأسرى، فأنى له أن ينسى!
ومع ذلك كله، فإن الشعب بحاجة إلى من يقوده، ويشجعه على البذل والتضحية، فالنفوس متعلقة بالدنيا، وتحتاج إلى من يذكي فيها نار المقاومة والفداء.
ولغياب ما سبق، بتنا اليوم نجد الداخل الفلسطيني بين من يعاني تحت نير الحصار في غزة، وبين من يحارب لوحده في المعركة دون سند أو ظهير كفلسطينيي القدس والداخل المحتل، وبين من تشغله سلطته بتوافه الأمور وسفاسفها كما هو الحال في الضفة.
المطلوب الآن وضع خطة عاجلة ليس لإعادة فتح الأقصى أمام الناس فحسب، وإنما لمعالجة مظاهر الخلل في الداخل الفلسطيني. لابد من تلمس كل مظاهر الضعف، والاعتراف بالتقصير الموجود، ولابد من التخطيط وليس رفع الشعارات فحسب
إن المطلوب الآن وضع خطة عاجلة ليس لإعادة فتح الأقصى أمام الناس فحسب، وإنما لمعالجة مظاهر الخلل في الداخل الفلسطيني. لابد من تلمس كل مظاهر الضعف، والاعتراف بالتقصير الموجود، ولابد من التخطيط وليس رفع الشعارات فحسب.
إنني موقن أن الضفة فيها الكثير من الإمكانيات التي يمكن أن تغير المشهد السياسي ، وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على إخواننا في غزة، والمقدسيين وفلسطينيي الداخل.
أما التجاهل للواقع، والدعوة للنفير من خلال الشاشات أو منصات التواصل الاجتماعي دون الانخراط مع المجتمع، ودون وجود تغيير حقيقي على الناس، فلن يثمر إلا مزيداً من التهويد للأقصى، ومزيداً من ضياع المقدسات والثوابت الفلسطينية.