النظام السياسي الإسلامي نظام مرن: جاء بعدد من الكليات، والضوابط المرجعية للعمل السياسي، وترك التفاصيل والمتغيرات للواقع وتغيره زماناً ومكاناً. ولعلنا إذا تأملنا نصوص الكتاب والسنة، ندرك بأن عدد الكليات الحاكمة أيضاً محدود، ويبدو لي أنّ هذا من حكمة المشرِّع؛ ذلك أن النظام السياسي وتفصيلاته من أكثر النّظم القابلة للتغيُّر والتبدُّل عبر الأزمان والأمكنة، واجتهادات البشر فيها أيضاً متعددة. ولست هنا بصدد الحديث عن النظام السياسي الإسلامي كلِّه، إلا فيما يتعلق بمبدأ التداول السِّلمي للسلطة، وإسقاطاته على المشروع الإسلامي.
فمن حيث الأصل العام اختيار الحاكم وانتخابه مسؤولية الشعب، والأمة مصدر السلطات، بغض النظر عن شكل الاختيار وأسلوبه: سواء من خلال البيعة، أو انتخاب أهل الحل والعقد، أو الانتخاب المباشر من الشعب، وهذه بعض صورٍ مقارِبةٍ للبيعة، من حيث المضمون وإن اختلفت في الشكل والصورة وآلية التعبير عن الرأي في الحاكم. وهذا يُبنى عليه أن الأصل سلمية تولّي الحاكم للحكم والمسؤولية، وأن الأصل هو حرية الاختيار للحاكم، وهذا لا يكون إلاّ سلمياً.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل يقبل النظام السياسي الإسلامي مبدأ التداول السلمي للسلطة؟ وفي مجتمعاتنا المعاصرة بالذات؟
مبدأ التداول الحضاري الذي سنّه الله بين الأمم، يرسخ فكرة أن البقاء للأفضل، وهو مرتبط بمنظومة من السنن الإلهية في الأمم والجماعات، قال تعالى: "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"
وقبل الإجابة على هذا السؤال، أحب أن أؤكد أنني أتبنى القول بأن مجتمعاتنا الإسلامية مسلمة، وإن شابتها الأخطاء، أو كثر فيها المخطئون. لكنني لا أكفرها، ولا أعدها جاهلية. كما أنني أتبنى فكرة حرية الاعتقاد في الإسلام، وأن غير المسلم يستطيع العيش بحرية وحقوق كاملة في المجتمع الإسلامي، مع مراعاة خصوصياته الدينية، وهؤلاء أقليات في المجتمعات المسلمة. كما أنني أتبنى حريّة تشكيل الأحزاب، وجواز التعددية الحزبية -وهذا سأتحدث عنه في مراجعات أخرى- ولكن هذه المبادئ والكليات تشكل أرضيات مهمة يكون مبدأ التداول السلمي للسلطة في مجتمعاتنا الإسلامية في ضوئها مبدأ مقبول بل مطلوب. ولا يتعارض مع مبادئ النظام السياسي الإسلامي، وهو أحد أهم عناوين الحياة الديمقراطية، واستيعاب الآخرين والمخالفين، وقبول التعددية.
ومن أهم الأدلة التي يستند إليها مبدأ التداول السلمي للسلطة:
إن مبدأ التداول الحضاري الذي سنّه الله عز وجل بين الأمم، يرسخ فكرة أن البقاء للأفضل، وهو مرتبط بمنظومة من السنن الإلهية في الأمم والجماعات، قال تعالى: "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" آل عمران 140، وأن الله تبارك وتعالى من سننه أن يزيل الفاسدين وأن يستبدل بهم. قال تعالى: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" محمد 38.
ومن سننه سبحانه إهلاك المترفين الفاسدين -طبعاً من أجل المجيئ بالصالحين المصلحين- كما قال سبحانه: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" الإسراء 16، فالبقاء وفق سنن الله تعالى للأصلح والأفضل، وأحد أهم معايير الأفضلية والأكثر صلاحاً -في النظام السياسي- هو اختيار الأمة التي لها حق اختيار من يحكمها وأن تراقبه وأن تعزله. سواءً كان شخصاً أم حزباً سياسياً، وهذا هو جوهر التداول السلمي للسلطة، بحيث يرضى الحزب الحاكم أو الحاكم بمن يختاره الشعب وتختاره الأمة، ويترك له السلطة طواعية، وأن تكون لديه القابلية لذلك. بل يكون على استعداد للتعامل بل والتعاون معه -إن لزم- حيثما تتحقق مصلحة الدولة والشعب.
القبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة وممارسته فعلياً يحقق مصلحة كبرى للمشروع الإسلامي؛ فيجعل الناس والسياسيين وقادة الأحزاب في أيامنا هذه أكثر قبولاً للإسلاميين، وأكثر استعداداً للتعامل والتعاون معهم، إذا وجدوا أنهم يلتزمون به قولاً وعملاً
ممارسات الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم في الحكم دليل على قبول مبدأ التداول السلمي للسلطة، وهذا يظهر جلياً في خطب الخلفاء رضوان الله عليهم وهم يوجهون الناس إلى تقويمهم إذا رأوا فيهم اعوجاجا حتى قال بعض الصحابة لعمر لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا فحمد الله على ذلك، وهذا وإن بدا أنه تغيير غير سلمي لكن الشاهد فيه قابلية عمر للتغيير أي لتغييره هو وأحد مقتضيات هذا التغيير عزله.
فإن قبل عمر التقويم بالسيف من رعيته فقبوله بالتغيير السلمي من باب أولى. وقد يقول قائل: "أين التداول السلمي للسلطة ونحن نراهم -رضوان الله عليهم- لم يتركوا السلطة حتى ماتوا؟! وهذا وإن بدا صحيحاً، فإنه مردود عليه بأن الأمة اختارتهم ورأت أفضليتهم وصلاحيتهم، لكنهم كانوا على استعداد لترك السلطة -لو رأت الأمة عزلهم- ووضع الأمر بين يدي الأمة من جهة، كما أنهم جميعاً انتقلت السلطة بينهم سلمياً ودون انقلابات من جهة أخرى. وفي كل الأحوال كان الحكم في اختيار الخليفة أو رفض بقائه هو الأمة أو من يمثلها.
إن القبول بهذا المبدأ وممارسته فعلياً يحقق مصلحة كبرى للمشروع الإسلامي؛ فيجعل الناس والسياسيين وقادة الأحزاب في أيامنا هذه أكثر قبولاً للإسلاميين، وأكثر استعداداً للتعامل والتعاون معهم، إذا وجدوا أنهم يلتزمون مبدأ التداول السلمي للسلطة قولاً وعملاً، وأنهم على استعداد لترك الحكم إذا لم يعودوا صالحين له، أو إذا اختارت الأمة غيرهم.
أما إذا رأوا أننا نقول ذلك بألسنتنا دون قلوبنا، ودون سلوكنا وأفعالنا، وأننا نتخذ الديمقراطية مطيّة لنتمكن ونصعد على أكتاف النّاس ثم ندير ظهورنا لهم، ولا نقبل مشاركة غيرنا معنا في الحكم، فضلاً عن أن نرضى تداول السلطة معهم، وهو ما حصل في مصر في تجربة الإخوان والرئيس مرسي -فرج الله عنه وعن إخوانه- ونحوه حصل في السودان حيث بقي البشير وحزبه في الحكم منذ عام 89 حتى اليوم أي قرابة الثمانية وعشرين عاماً، وغير ذلك من الممارسات والتي تجعل الآخرين يتشككون في مواقفنا ولا يثقون بوعودنا بل ينفضون عنّا بل ينقلبون علينا. فإذا رأونا لا نقبل التداول السلمي للسلطة أو الشراكة السياسية فكيف سيقفون إلى جانبنا ويتبنون الدفاع عنا ومناصرة فكرتنا؟!
الذي يحدد مواصفات من يحكم ومن يؤسس الأحزاب هو الدستور، والأمة التي نحتكم إليها مسلمة في غالبها من جهة، ولا ترتضي أن يحكمها من لا يصلح لها إذا تركنا لها حرية الاختيار
على أنه من الموضوعي أن نشير إلى وجود بعض التجارب الجيدة في هذا الجانب من بعض الإسلاميين كما هو الحال في المغرب وتونس واليمن وتركيا، لكنها في أكثرها تجارب ناقصة فمن جهة لم يتمكن الإسلاميون من الحكم كاملاً كما هو في تونس واليمن وفلسطين، ومن جهة أخرى فإنهم مازالوا قائمين في حكمهم لأن الغالبية اختارتهم ولم يدخلوا في تجربة مغايرة تنقل السلطة إلى غيرهم كما هو الحال في تركيا والمغرب. بل غيرهم حاول الانقلاب عليهم كما حصل في تركيا.
وأخيراً فقد يتساءل البعض ويستدركون على هذه الفكرة من جهة أنه كيف يمكن أن نقبل أن يحكمنا العلماني، أو غير المسلم وأن نتداول معه السلطة؟! وهنا أقول إنّ الذي يحدد مواصفات من يحكم ومن يؤسس الأحزاب هو الدستور، والأمة التي نحتكم إليها مسلمة في غالبها من جهة، ولا ترتضي أن يحكمها من لا يصلح لها إذا تركنا لها حرية الاختيار، ومن قبل بقواعد اللعبة الديمقراطية يسعى لإصلاح الدستور بأدوات الإصلاح الديمقراطية والسلمية ويخضع لرأي الغالبية، ونصبر حتى نصلح الواقع ونغيّره سلمياً، وإلا فإنه لا يصح أن نرتضي الديمقراطية حتى توصلنا إلى الحكم ثمّ ننقلب عليها، وعندها لا يصح أن نطلب من الناس والأحزاب أن يثقوا بنا.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة