معركة “الأزهر” في مصر وخطايا التبعية السياسية!

الرئيسية » بصائر الفكر » معركة “الأزهر” في مصر وخطايا التبعية السياسية!
azhar2

تابعنا في الفترة الأخيرة تفاصيل الأزمة التي اندلعت في #مصر بين الدولة وبين #الأزهر الشريف، والحملة الإعلامية التي رافقت ذلك، ومسَّت المؤسسة ورأسها، الدكتور أحمد الطيب، بسبب رفض الأخير وهيئة العلماء التابعة للأزهر، تعليمات من الدولة في شأن ما يُطلق عليه في الإعلام المصري والعربي في الوقت الراهن، مصطلح "تجديد الخطاب الديني".

تعلقت الأزمة بأكثر من جانب، من بين أهمها مطالب بـ"تنقية" مناهج التعليم الأزهري من بعض الأمور، بشكل يمسَّ بعض الجوانب العقيدية، تحت ستار الحفاظ على الوحدة الوطنية، و"مكافحة الفكر التكفيري"، بطريقة طالت حتى بعض الآيات القرآنية الكريمة.
الجانب الثاني، هو ما يخص كتب التراث، وعلى رأسها "صحيح البخاري"؛ حيث طالب البعض بإلغاء مرجعيته أصلاً، بحجة احتواؤه على متناقضات وأمور تشجع على التكفير وما يُعرف بـ"العنف الديني".

ينضاف إلى ذلك مطالب معينة تتعلق بإصدار الأزهر لموقف فقهي إفتائي واضح فيها يخص بعض الحركات الإسلامية الموجودة، ومن بين أظهر نماذج ذلك، مطالب بتكفير تنظيم "داعش"؛ حيث يرفض الأزهر الشريف ذلك.

قادت مواقف الأزهر الشريف الرافضة للكثير من هذه المطالب، إلى حملة إعلامية تابعها الجمهور العربي والإسلامي، حتى فترة وجيزة قبل شهر رمضان المبارك المنصرم، وصلت إلى اتهامات للأزهر الشريف والإمام الأكبر، بأنهم سبب الإرهاب والتطرف الراهن في العالم الإسلامي!

قادت مواقف الأزهر الرافضة لمطالب الدولة المصرية، إلى حملة إعلامية تابعها الجمهور العربي والإسلامي، حتى فترة وجيزة قبل شهر رمضان المنصرم، وصلت إلى اتهامات للأزهر، بأنه سبب الإرهاب والتطرف الراهن

ولعل من بين أخطر الأمور والقضايا المرتبطة بهذه الحملة، هي تلك المتعلقة بالتراث الفقهي الذي راكمته جامعة الأزهر والهيئات العُلَمَائية المرتبطة بالأزهر الشريف، ومشيخته، عبر مئات السنين، كان لها أعمق الأثر في حفظ تعاليم الشريعة، والاستجابة للمستجدات.

ولكن لربما كان أهم الأدوار التي قام بها الأزهر الشريف وتراثه الفقهي عبر التاريخ، هو التصدي للمذاهب والأفكار الهدَّامة التي تظهر من آنٍ لآخر، على يد بعض الزنادقة وأصحاب المذاهب المنحرفة.

هنا كان ولا يزال الأزهر الشريف هو أهم مرجعية لدى المسلمين، من أجل تحديد ما هو يدخل في صحيح الإسلام، وما هو من الشريعة الإسلامية، وما هو يخرج عن هذا السياق.

وبشكل ربما رسمي؛ فإن الأزهر الشريف هو الجهة الأهم في العالم الإسلامي التي من شأنها وضع مذهب ما ضمن المذاهب المعترف بها في الإسلام، أو نفي هذه الصفة عنها، وربما هو الطرف الوحيد الذي يمكنه ذلك، ويتم قبول ما يُقرُّه في هذا الصدد، من جانب الغالبية العظمى من العلماء والهيئات الدينية الأخرى.

وكان من بين أهم مواقف الأزهر الشريف في هذا الصدد، رفضه الاعتراف بالمذهب القادياني كمذهب إسلامي، وقبول المذهب الجعفري الإثنى عشري الشيعي كمذهب إسلامي، بجانب المذاهب، وكذلك إقرار العقيدة الطحاوية والأشعرية، بعد قرون من الخلافات بين فقهاء وعلماء مسلمين كُثُر في هذا الصدد.

الجانب الآخر الأهم في تراث الأزهر الشريف، على مختلف مستويات المؤسسة، الجامعة والمشيخة وهيئة العلماء، وغير ذلك؛ هو فقه المستجدات.

فالأزهر هو أقدم مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، وبين تأسيسه وبين البعثة النبوية، حوالي 400 عام، وبالتالي فهو عاصر القسم الأكبر من تاريخ الإسلام في العالم، وخريجوه في العالم بأسره، وحيثما يوجد مسلمون سواء كأغلبية أو كأقليات في بلد ما؛ فإن هناك علماء أزهريون، يقدمون الفتاوى اللازمة لمستجدات العصر، بحيث يستكمل الناس دينهم طيلة الوقت، وخصوصًا في المجتمعات التي تفرض العديد من القيود على شعائر المسلمين وعباداتهم، أو فيها من الظروف الخاصة التي تفرض ذلك، مثل عدد ساعات الصيام في المناطق التي لا تعرف دورة النهار والليل العادية، وغير ذلك.

حيثما يوجد مسلمون سواء كأغلبية أو كأقليات في بلد ما؛ فإن هناك علماء أزهريين، يقدمون الفتاوى اللازمة لمستجدات العصر، بحيث يستكمل الناس دينهم طيلة الوقت

وانبثاقًا من ذلك، لعب هذا التراث، مع طول الفترة التي قضاها الأزهر الشريف وحده في هذا الميدان، مع بعض الجامعات الأخرى، مثل القيروان في تونس والقرويين في المغرب، قبل تأسيس المؤسسات التابعة لبلاد الحرمَيْن أو الجماعة الإسلامية العالمية في باكستان وماليزيا، وغير ذلك من المظلات العلمائية والأكاديمية الإسلامية؛ لعب أبلغ الأثر في صدد توحيد المفاهيم الخاصة بهذه الأمور، بحيث لا يتحول الأمر إلى فوضى فقهية أو إفتائية.

وبجانب أمور أخرى لا يسعها هذا الحيِّز؛ فإن ما سبق يدلنا على أهمية الدفاع عن التراث الأزهري.

لكن هذا يثير تساؤلاً شديد الأهمية، حول طبيعة الجهة المسؤولة عن الأزمة الراهنة التي يواجهها الأزهر الشريف، والتي – أي الأزمة – أبلى فيها مع قيادته بلاءً حسنًا، وأيد الواقع أن المؤسسة أقوى وأكبر من السلطة في مصر – مهما كانت الأمور والتحولات القانونية والسياسية التي مرَّت على المؤسسة – وأن قدسية العلم الشرعي ومؤسساته وعلماءه؛ ولا يزال على قدر من الهيبة والأثر في النفوس.

بلا شك؛ فإن للأزهر وقياداته دورًا في ذلك.

وينحصر هذا الدور في عنوان كبير، وهو استجابة الأزهر وارتهانه في العقود الأخيرة، لسياسات السلطة، وتماهيه مع مواقف الدولة في مصر، حتى في الأمور الاقتصادية التي تتطلب مواقف فقهية مباشرة؛ لا علاقة لها بالسياسة بشكل مباشر، وهو ما آذى كثيرًا حتى المؤسسة نفسها، وقلَّص دورها في المناطق الهامة التي فيها مساحات واسعة للدعوة، مثل القارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية، ومجتمعات الأقليات في أوروبا.

وسمح ذلك للكثير من التيارات الهدَّامة والمتطرفة بأن تلعب دورها في استقطاب المسلمين الجُدد وشباب الأجيال الجديدة من غير المتمكنين من معارفهم الدينية، بأن يتحولوا إلى شوكة في خاصرة الإسلام، في إطار ظاهرة ما يُعرف بالإرهاب.

ولعل من بين أسوأ الآثار التي ترتبت على انسياق الأزهر كمؤسسة في إطار الدولة المصرية؛ أنه فقد صفته كمؤسسة إسلامية أممية، وتحول إلى مؤسسة رسمية تابعة لدولة، وهو – أيًّا كان صورة مواقفه في هذا الإطار – فإنه، وبشكل موضوعي، يجعله إطارًا مصريًّا خاصًّا بدولته، وليس إسلاميًّا جامعًا؛ يستجيب لسياسات حكومة دولة وليس لاعتبارات تتعلق بالأمة ككل.

ويمس ذلك مصداقية المؤسسة؛ حيث بدلت مواقفها كثيرًا في أمور وقضايا إستراتيجية تخص المسلمين بالكامل، تبعًا لتبدل مواقف وسياسات الدولة المصرية.

فالأزهر بارك خطوة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالصلح مع الكيان الصهيوني، بينما كان الأزهر وقت عبد الناصر يعارض ذلك تمامًا، وفي عهد الدكتور محمد حسين طنطاوي؛ بدَّل طنطاوي من فتاوىً كثيرة له كان قد أطلقها إبَّان توليه منصب مفتي الديار المصرية فيما يخص فوائد البنوك الربوية وأمور أخرى، لأن الدولة كانت تريد ذلك منه.

فعندما أفتى طنطاوي في الثمانينيات بحرمة الفوائد البنكية؛ كانت الدولة المصرية لا تزال في طور الاقتصاد الاشتراكي، وعندما بدأت في التحول إلى المنظومة الرأسمالية، وتبنت سياسات الخصخصة والسماح للمستثمرين بالصَّوْل والجَوْل بمطلق الحرية؛ تطلب ذلك فتوى تجيز فوائد البنوك التجارية، وهو ما قام به طنطاوي، بالرغم من وجود حالة من شبه الإجماع بين علماء المسلمين على تحريمها.

كذلك، وبسبب ظروف مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف في مصر في التسعينيات، فرضت الدولة المصرية على الشيخ طنطاوي تبني مواقف وقرارات فيما يخص مناهج الأزهر، مما أدى إلى تفريغها من الكثير من مضامينها، وبالذات في مجالات الفقه والتفسير.
كما دخل الأزهر على خط دعم الدولة في معركتها مع جماعات الإسلام السياسي، بشكل مسيَّس، وكان أهم نماذج ذلك وأسوأها، هو دعم الأزهر لانقلاب الثالث من يوليو 2013م، على الرئيس المنتخب شعبيًّا في ذلك الحين، الدكتور محمد مرسي؛ حيث ساعد الأزهر الدولة العميقة في مصر، في تنفيذ انقلابها على إرادة المصريين، لمجرد أن مرسي من خلفية إسلامية، وأرادت الدولة العميقة إقصاء الإخوان المسلمين من الصورة.
وهذا أمر من الصعب قبوله أو قبول تبريراته، وحتى لو كان على حاكم آخر من غير الخلفية الإسلامية؛ فإن المبدأ ذاته مرفوض.

بعض قيادات الأزهر قد ارتضت لنفسها أن تنزع صفة الأممية عن الأزهر وترتهنه للقرار السياسي للدولة في مصر، وهو أمر فتَّ في مصداقية الأزهر إسلاميًّا، حتى ولو كان ذلك في أمور موضوعية لا يطالها دنس السياسة

وصفوة القول؛ إن بعض قيادات الأزهر الشريف قد ارتضت لنفسها أن تنزع صفة الأممية عن الأزهرـ وترتهنه للقرار السياسي للدولة في مصر، وهو أمر فتَّ – كما تقدَّم – في مصداقية وتأثير الأزهر الشريف إسلاميًّا، حتى ولو كان ذلك في أمور موضوعية لا يطالها دنس السياسة؛ فكف الحال مع ارتباط ذلك بكوارث حقيقية كما حصل في حالة انقلاب طنطاوي على فتاويه السابقة، أو تأييد شيخ الأزهر الحالي، الدكتور أحمد الطيب للانقلاب الذي وقع في يوليو 2013م على الإرادة الشعبية للمصريين؟!.. بكل تأكيد فإن ذلك يعني القضاء على المؤسسة معنويًّا على الأقل.

لكن هذا لا يعني ترك الأزهر وحيدًا، ويعني ضرورة استجابة كل الأطر الحركية والعلمائية الإسلامية، في العالم بأسره لدعمه؛ لأن المؤسسة مختلفة عن شخوص القائمين عليها، والحفاظ على تراثها – على أهميته كما تقدم – مهمة إسلامية، يجب معها عدم النظر إلى ممارسات بعض قياداته في العقود الأخيرة، وفي وقتنا الراهن.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

هل يصح الشك بوابة لليقين؟ (2-2)

سبق في الجزء الأول بيان منشأ مذهب الشك على يد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وآثار …