هل تغرق في سُكر الغفلة فرارًا من مواجهة نفسك؟

الرئيسية » خواطر تربوية » هل تغرق في سُكر الغفلة فرارًا من مواجهة نفسك؟
disappointment7

كثر الحديث عن إدارة الوقت وتنظيم الروتين والتخطيط للإنجاز، والحق أن كل هذا فرع عن إدارة النفس أولًا، والتعامل معها بقوّة والقدرة على سياستها بجديّة. فالذي لا يحسن إدارة نفسه، ويتهاون في الاسترسال وراء دلالها، لن يمكنه بالتالي أن يحقق أياً مما سبق، وإذا نجح مرة أو مرتين فإن ذلك لن يكون له طبعًا وسيظل عليه شاقًا. فما هي إدارة النفس بداية؟

إدارة #النفس هي مصطلح حديث لمفهوم أصيل في ديننا: تزكية النفس وتهذيبها، وهي "الجهاد الأكبر" كما وصفها المصطفى عليه الصلاة والسلام. والجهاد مأخوذ من جهد المغالبة والمدافعة بين عنصري النفس الإنسانية: الغريزة والفطرة، أو نفحة السماء وطين الأرض، أو بواعث الإيمان ودوافع الشهوات، إلى آخر التسميات التي تعبر في خلاصتها عن جوهر هذه الثنائية.

وغاية هذا الجهاد ليس تخليص النفس من مكامن الشهوة وميول #الهوى، فهو مركّب فيها بالضرورة وعنصر لازم من تكوينها، وإلا ما تحقق معنى الجهاد ولا مقاصد الاختبار في هذه الدار. إنما غاية هذا الجهاد هو "تهذيب" ذلك العنصر في إطار أمر الله وجعله تبعًا، كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يَكونَ هواهُ تبعًا لمَّا جئتُ بِهِ" [رواه الطبراني وابن أبي نعيم وهو ضعيف]. فالهوى هو قابلية النفس للميل، وغاية الجهاد ليس نفي الميل وإنما توجيهه حتى يصير في رضا الله، وحتى لا ينقلب انحرافًا عن ذلك. وفي قوله عليه الصلاة والسلام "وفي بُضْعِ أحدكم صدقة" شاهد آخر على أن مقصود الجهاد ليس نزع لذة الشهوة ولا كبتها، وإنما تصريفها حيث يحِل ويحسن، كما توضح تتمة الحديث: "قالوا (أي الصحابة): يا رسولَ اللهِ ! أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون لهُ فيها أجرٌ؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان لهُ أجرًا "[مسلم]. إذن غاية هذا الجهاد هو تهذيب النفس لا تعذيبها، وتوجيه الشهوة لا إصابتها في مقتل، وقطع "اتباع" الهوى لا عداوة الهوى في ذاته.

الذي لا يحسن إدارة نفسه، ويتهاون في الاسترسال وراء دلالها، لن يمكنه بالتالي أن يحقق أي شيء

إذن منبع الخلل الرئيس في استعصاء النفس على إدارتها هو في ذلك "الاتباع" للهوى والمتعة والشهوة . فبغض النظر عن كونهم في أمر مباح أم مكروه أم محرم، مكمن الإشكال بداية في ألا يقول المرء أبدًا لهذا الجزء من نفسه "لا"، أي كلما اشتهى يلبّي. ثم الأدهى بعد ذلك أن تكون هذه المسارعة في التلبية تحت ستار كون الشهوة والهوى في حلال أو مباح. فكم من إغراق في المباحات جر لمكروهات ثم محرمات، إذ ليس الإشكال في المباح بل في الإغراق، كما أن الخلل ليس في وجود الهوى بل في اتباعه، بدءًا بالخطوات الصغيرة التي نستبيحها ونستسهلها، من إدمان المسلسلات والروايات، مرورًا بشهوة الطعام وتخمة الأكل، وما يتبعه ذلك من غلبة الخمول والكسل والإغراق في النوم، وانتهاء بالكبريات الداخلة في حمى المكروه والحرام.

ومما يزيد العقد استعصاء والطين بِلّة، أننا مهما ازددنا علمًا بحبائل النفس وعواقب الانجرار ورائها، زدنا تسليمًا لها تسليم خوف من المواجهة، لا تسليم راضٍ وقانع بترك الحبل على الغارب. ولنتوقف هنا هنيهة لنتأمل في حكمة تحرّيم الله تعالى للمُسْكِرات، نجد أنها تذهب بتكريم الإنسان وتاجه: العقل.

فالمُسكِر هو كل ما يُسْكِرُ، أَيْ يُحْدِثُ دَوَرَاناً فِي الرَّأْسِ وَيُفْقِدُ شَارِبِهِ الوَعْيَ والإدراك. ومن هنا سمّيت الخمر خمرا لأنها تَخْمُر العقل أي تغطيه وتطمسه.

غاية هذا الجهاد هو تهذيب النفس لا تعذيبها، وتوجيه الشهوة لا إصابتها في مقتل

هل خطر لك أنك قد لا تكون شاربا للخمر فعليًا، لكنك غارق في السُّكْر حقيقة؟  إن كل محاولة "لتنسى"، "لتسلو"، "لتغفل"، "لئلا تفكر"، "لئلا تتذكر"، "لئلا تعلم"، "لئلا تعقل"... وما شاكلها، كلها من صور السكر: لأنك تغرق فيما يُغيّب عقلك عن الحاضر أو يعطّله عن مواجهة مسؤولياته. قد يتخذ ذلك السكر صورة الإغراق في مشاهدة فيلم بعد فيلم أو مسلسل وراء مسلسل، في الدوران العبثي في الفيسبوك وتقليب صفحات الإنترنت بلا طائل، في الدردشات والمحادثات المسموعة والمكتوبة عن السفاسف والتوافه، في البطء المستميت في الحركة وإنجاز المهام الروتينية حتى ينقضي اليوم والسلام، في الانغماس في دوامات لقمة العيش حتى يتسرب العيش نفسه من بين أصابعك، في النوم الكثير والخمول الممتد بلا أمد.

قمة السُّكر هو أن تعيش حياتك هاربًا من حياتك، غير أنه سَكَر مقنّع مادتّه النفوس لا الكؤوس

قمة السُّكر هو أن تعيش حياتك هاربًا من حياتك، غير أنه سَكَر مقنّع مادتّه النفوس لا الكؤوس، وما تفر منه لا مفر منه، وهو لابد ملاقيك ، فإن سَكِرت عنه هنا عَقِلته هناك، حيث لا ينفع إبصار بعد أن اختار صاحبه العمى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ:22]

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …