إن اختصاص الله تعالى بتصريف الأقدار وتقسيم الأرزاق لا يعني مطلقًا جبر الإنسان على أفعاله ولا الظلم في تصريف أقداره. ذلك أن عِلم الله تعالى بأفعال كل خلق من خلقه، وما ستكون عليه خاتمته وجزاؤه ومصيره، هو علم سابق لا سائق، ينتج عنه الكَشف لا الجَبر. بمعنى أن الله يعلم مسبقًا علمًا شاملًا محيطًا بكلَّ ما سيصدر عن كل مخلوق في كل حين. ثم اختص نفسه سبحانه بهذا العلم ولم يطلع عليه العباد. فكل واحد من ثَمّ يسعى باختياره الحقيقي، وسعيه يُصدِّق ما علم الله قبلًا وما هو مكشوف عنده مسبقًا. فإذا كنّا نندهش أحيانًا من تبدّل حال أحد أو تحوّله لشخص آخر مثلًا، فهو عند الله تعالى مكشوف بلا مفاجآت، لأنه تعالى مطلع بداية على حقيقة الحال.
ولعل أوضح تجلّ لذلك بين أيدينا هي سورة المسد: هذه السورة نزلت في حياة أبي لهب، تقرر خاتمته ومصيره، وهو بعد على قيد الحياة! كان بوسع أبي لهب أن ينطق الشهادتين – ولو كاذبًا – ليطعن في صدق القرآن وصدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يفعل! مع أنه كان حرًا ولم يجبره أحد على الاستمرار في الكفر، وظلت الدعوة تدندن حوله، لكنه استمر على كفره وعناده، حتى خُتم له بالخاتمة التي قررها الله له في القرآن من قبل وهو بعد على قيد الحياة! لا ريب إذن أنه تنزيل ممن عِلْمه محيط وشامل وأكيد بأن هذا الشخص لن يؤمن مهما حصل، وستكون هذه خاتمته قطعًا، وقد كان. هل يزعم أحد بعد ذلك أن أبا لهب كان مجبورًا على الخلود في النار؟!
عِلمُ الله بأفعال كل خلق من خلقه، هو علم سابق لا سائق، ينتج عنه الكَشف لا الجَبر
وفي ظل هذا العرض يستقيم فهم الأحاديث والآيات التي تتعلق بالشقاء والسعادة، وبحسن الخاتمة أو سوئها، فالله تعالى لا يخفى عليه حال أحد، ولا يظلم مثقال ذرة. و خواتيم الناس ليست إلا تجليات لحقيقة ما كانت عليهم نفوسهم مما هو معلوم عند الله ، وإن خفي على الناس أو التبس عليهم ما "ظهر" لهم منهم.
وبناء على علم الله تعالى السابق وليس منفصمًا عنه، كان ترتيبه تعالى للأقدار -ابتلاءً ونعمة- وتقسيمه للأرزاق – منعًا ومنحًا، بحسب كل شخص. لذلك تقديره تعالى أحكم تقدير وأعدله، لأنه مبني على علم يقيني بحال كل أحد، ومراعٍ لسياقه الذي أوجده هو تعالى فيه ووُسعه الذي أمكَنَه منه، ومحقق في نفس الوقت لطبيعة هذه الدار الدنيا من كونها دار اختبار مستمر لا جزاء خالد.
تقديره تعالى أحكم تقدير وأعدله، لأنه مبني على علم يقيني بحال كل أحد، ومراعٍ لسياقه الذي أوجده هو تعالى فيه ووُسعه الذي أمكَنَه منه
وليس غير الله تبارك وتعالى يجمع تقسيمه للأرزاق المحاسن كلها: العدل والرحمة والعلم والحكمة. وتقديرات الله تعالى في جوهرها خير كلها وحكمة كلها وتربية كلها، وإن بدا ظاهرها غير ذلك، لمن فهم عن ربه لا عن هواه. فنحن حين نسلّم ونرضى، إنما نسلّم لله تعالى لا لذات القدَر، ونرضى بقضائه من حيث أنه من عنده تعالى، لا بذات المقضيّ. فالمؤمن لا تطغيه نعمة عن حمد المنعم، ولا يشتط به الحزن حتى يوقعه في التسخط وقول ما يغضب الله.
ونجد هذا الفهم فيما ورد -مثلًا- في وصف المصطفى عليه الصلاة والسلام عند حضوره وفاة ولده إبراهيم: "فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: يَابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ. ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" [البخاري]. وفي الحديث كذلك: "إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بَدَمْعِ الْعينِ، و لا بِحُزنِ القلبِ، و لكِن يُعذِّبُ بِهذا و أشَارَ إلى لِسانِه أو يَرْحَمُ" [البخاري].
نخلص من هذا إلى أن حقيقة التسليم تكون لله تعالى لا لذات القدَر ، والرضا يكون عن تقديره تعالى وقضائه لا ذات المقضي. ولتوضيح الفارق، بالمثال السابق في موقف وفاة ابن المصطفى عليه الصلاة والسلام، فذات المقضي هو وفاة الرضيع، وهو مشهد مؤلم وفراق محزن، ومن ثم كان الدمع في هذا السياق من الرحمة التي أودعها الله قلب ابن آدم، ومن هنا لا يعذب الله بدمع العين ولا وجع القلب من حيث كونهما تعبيرًا عن تلك الرحمة وذلك الألم.
أما القضاء فهو تقدير الله تعالى أن يسترد وديعته في ذلك التوقيت من ذلك العمر، فهنا لا تسخط على تدبير الله من حيث هو الله الخالق المالك للأمر كله، وكلنا لله وكلنا إليه راجعون، ومن حيث هو سبحانه المدبر بحكمة وعلم، ومن حيث أنه سبحانه الأعلم بحال عباده ومراده منهم ولا يكلفهم فوق وسعهم الذي هو واهبه بداية.
ومن هنا فحتى الصبر على قدر الله وكظم القلب عن التسخط، لا يكون إلا بالله كذلك، فالأمر بالله ولله ولا يقوم إلا بتوفيق الله.