تستشرف الحاضر وتطل عليه من نافذة قلبك، الذي مزقه الواقع المرير، الذي تحياه الأمة على جميع الأصعدة، فيأخذك الحنين والشوق لتجول بفكرك وقلبك؛ لتطالع صفحات الماضي المشرقة لهذه الأمة، والتي ضربت أروع الأمثلة وأسمى النماذج في التآلف والمحبة والإخاء.
وفي تحليق فكرك بين صفحات التاريخ، تجد الواقع المرير والهوة الشاسعة بين اليوم والأمس، يدفعانك لتقف على مشارف يثرب؛ إذ القلوب والأرواح تصطف قبل الأجساد؛ لاستقبال نزلاء جدد، فرُّوا من ظلم العشيرة والأهل، في سبيل غاية تهون من أجلها كل الصعاب، من ترك للديار والأهل والأحباب. وما أشبه حالهم اليوم بحال كثير من اللاجئين الذين شردهم الظلم، وزعزع أمنهم حقد الإنسان وأثرته على أخيه الإنسان، غير أن نتائج الأمس لا تقرب لنتائج اليوم بشيء.
وطِئت القدم الشريفة للحبيب المصطفى أرض يثرب، ووسع أهلها له ولصحابته المهاجرين في القلوب والديار فحق لهم تسمية الأنصار، شرف ما زال يسجله لهم التاريخ في صفحات الإيثار؛ ليكون من أوائل الخطوات التي يتخذها القائد النبي صلى الله عليه وسلم -في بناء الدولة الفتية وتدعيم أركانها- هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لكي يزيل آثار اللجوء المؤلمة من قلوب أصحابه، ولا يخطر ببال أصحاب الديار من الأنصار أن يتعالوا -ولو بنظرة- على إخوانهم الجدد في الدين، كما هم في الإنسانية، فصار لهم حقوق الأخوة بالدم والنسب، ليؤسس بذلك دولته على أساس متين، لا يتمايز أفرادها بعضهم عن بعض، لا بجنس، ولا بلون، ولا بمواطنة، ولا بلجوء، فكلنا لآدم، وآدم من تراب.
ويأتي القرآن بها حقيقة كما الشمس ساطعة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: آية 10]، ويترجمها النبي صلى الله عليه وسلم واقعًا معاشًا، ويصدح بها مقتلعًا آثار الجاهلية والعصبية المنتنة: "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله" (رواه مسلم)، ويقول عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (رواه أحمد).
لتصبح هذه الفئة القليلة -ببقعة صغيرة في صحراء شاسعة من الأرض والمعاني الإنسانية، لتصبح بروابط الدين الجديد وقيمه ومبادئه- خيرَ أمة أخرجت للناس، فتخضع لها مشارق الأرض ومغاربها بالقيم التي ترجمها أصحابها بأفعالهم وأخلاقهم لا بأقوالهم وشعاراتهم.
بإخوّتهم تجاوزوا عثرات العصبية المقيتة، وتشاركوا الغاية والوسيلة، وتقاسموا الأموال والديار، فلا يشبع الواحد منهم وجاره جَوْعان، تآلفت أرواحهم، فتآخت قلوبهم، فأشرقت شمسهم على البلاد هداية ورحمة، وبذلك أخرجوا العباد من ظلمات الجاهلية لنور الحقيقة وعدل الإسلام.
واليوم تبدلت أحوال الناس وتنافرت أرواحهم، فاختلفت قلوبهم ووجهاتهم، وهل آثار الدمار والهلاك الذي لم ينج منه بشر ولا حجر ولا شجر! وانتهاك الإنسانية وامتهان كرامتها إلا نتاج اختلاف القلوب، وانقلاب الموازين، وتَبَنّي المبادئ والقيم شعارات وخطابات ليس إلا؟!.
وهل آثار الدمار والهلاك الذي لم ينج منه بشر ولا حجر ولا شجر! وانتهاك الإنسانية وامتهان كرامتها إلا نتاج اختلاف القلوب، وانقلاب الموازين؟!
تنظر إلى مشارق الأرض ومغاربها، تطالع الصحف، وتستمع للنشرات الإخبارية، فلا تسمع إلا أزيز الطائرات، وهدير الدبابات، وعدد الضحايا من الأبرياء في ازدياد من ضربات أبناء جلدتنا قبل عدونا.
خراب ودمار شوه معالم الجمال، صادر الحريات، واعتدى على الكرامات، وامتهن الإنسان بكل قيمه، فأصبحت الإنسانية اليوم مسرح صراعات كشريعة الغاب، فإذا نظرت لأبناء البلد الواحد تجد التفرقة عاثت بينهم وتنافسوا المصالح المادية، غير آبهين لأخوة الدم أو الإيمان، أو حتى أخوة الإنسانية، بل تجد في الحي الواحد الجار -الذي كاد النبي عليه الصلاة والسلام أن يورثه- يموت جائعًا عريانًا ظامئًا، وجاره أموالُهُ مكدسة في البنوك الخارجية منها والداخلية، والتُّخَمَة له عنوان.
ألسنا نتلو الكتاب عينه الذي أُنزل على المهاجرين والأنصار؟ ألم نستن بهدي خاتم الأنبياء؟! نعم، ولكنهم حفظوا حروفه وأقاموا حدوده، فكانوا يتعلمون العشر آياتٍ من الكتاب لا يتجاوزونها حتى يترجموها واقعًا وسلوكًا
وليتساءل كل منا، بل يقفَ على حدود نفسه: ألسنا نتلو الكتاب عينه الذي أُنزل على المهاجرين والأنصار؟ ألم نستن بهدي خاتم الأنبياء؟! نعم، ولكنهم حفظوا حروفه وأقاموا حدوده، فكانوا يتعلمون العشر آياتٍ من الكتاب لا يتجاوزونها حتى يترجموها واقعًا وسلوكًا، ولكن اليوم الحافظ منا والمقرئ والخطيب -إلا من رحم ربك- يخالف حالهم مقالهم، فإن حاججت أحدا منهم بنص أو حديث وأشهدت عليه قوله، تشدق قائلًا: هذا زمان وزمان الصحابة زمان، فصدق فيهم قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)} [سورة الصف:2-3]، أو خرج من بين الجموع متفلسفًا: هذا حال المجتمعات المؤمنة ولسنا كذلك! أوليس هناك أخوة الإنسانية قبل أخوة الإيمان! يا هذا، ألم يكرم الرسول صلى الله عليه وسلم ويصل جاره اليهودي؟!.
إن هذه الأمة لن يستقيم حالها، ولن تشرق شمسها أو يسطع فجرها؛ إلا بقيام الإسلام في قلبها، وتحقق تعاليمه في أخلاقياتها وسلوكياتها، ومن غير ذلك ستبقى شريعة الغاب هي الحاكمة المسيطرة، الفتن والحروب عنوان لديارنا والدماء صفحاتنا ودواتنا..