الأُصول القدريّة في مواجهة الظّلم والطّغيان

الرئيسية » حصاد الفكر » الأُصول القدريّة في مواجهة الظّلم والطّغيان
سالم الشيخي

يسألني كثير من الإخوة عن الأصول الّتي ينبغي لي التّأكيد عليها في مثل هذه الأيّام العصيبة، سأُذكّر بأصلين اثنين في غاية الأهميّة:

الأصل الأوّل: سنّة الحراك التّاريخيّ

فالله- تبارك وتعالى- خلق هذا الوجود، وبحكمته جعل له سننًا تحكم حركة البشريّة في كل زمان ومكان، وهذه السّنن- أو القوانين- لا يمكن أن تتغيّر أو تتبدّل، كما قال تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ}، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، فعندما يقع الظّلم والاعتداء والبغي على أهل الإسلام، وتشتدّ المحنة، ويعظم الكرب- كما هو الحال الآن- عليهم أن يتذكّروا أنّ دوام الحال من المحال، وأنّ دوام الظّلم مخالف لسنن الله في الوجود، وأنّ حالة تصوّر وقوف حركة التّاريخ عند نقطة معيّنة دون أن تتزعزع أو تتحرّك– وهي الحالة الّتي يسمّيها البعض (ظاهرة تصنيم التّاريخ)- هي حالة مرفوضة شرعًا وعقلًا وتاريخًا، فالظّلم الّذي امتلك أصحابه الأسباب، وأخضعوا لسلطانهم الرَقاب، سيدفع أصحاب الحقّ المغتصب إلى أن يرجعوا إلى أنفسهم عند اشتداد المحن عليهم، وسيكون أمامهم حينئذٍ خياران لا ثالث لهما:

الخَيار الأوّل:

– أن يتكيّفوا مع واقع الظّلم، ويرضوا به باسم العجز وفقد المقدرة على رفعه أحيانًا، وباسم العقلانيّة والواقعيّة أحيانًا أخرى، وعند وقوع هذا التّكيّف المذموم تستجيب نفوس المظلومين لتندمج مع الواقع الظّالم، وتصبح جزءًا منه، وهي الحالة الّتي سمّاها الإسلام (الرّكون إلى الباطل- أو الفتنة)، وقد جاء في الآية الكريمة: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}، وهي حالة ممنوعة شرعًا وعقلًا ومنطقًا وتاريخًا، ولقد نزل قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}، عندما اشتدّ الأمر على نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأُغلقت أمامه الأبواب- خاصّة بعد حادثة الطّائف- نزل القرآن محذّرًا من هذه الحالة؛ إذ لا يقبل دين العزّة حالة الرّكون والاستجابة للواقع الظّالم، فضلًا عن مباركته أو إعطائه الشّرعية المزعومة، وقد قال سيّد قطب -رحمه الله- عن هذه الآية: “وإنّ الانحراف الطّفيف في أوّل الطّريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطّريق، وصاحب الدّعوة الّذي يقبل التّسليم في جزء منها -ولو يسير- وإغفال طرف منها -ولو ضئيل- لا يملك أن يقف عند ما سلّم به أوّل مرّة ؛لأنّ استعداده للتّسليم يتزايد كلّما رجع خطوة إلى الوراء”، وعليه؛ فخلاصة هذا الخيار تتلخّص في المعادلة الآتية:

استجابة لضغوط الظَّلَمَة > رضا وقبول بالظّلم > إعطاء المشروعيّة للظّالم > أن يصبح المظلوم جزءًا من منظومة الظّالم = ركون.

فمتى استجاب المظلوم لضغوط الواقع من حوله، ورضي الاستكانة للظّلم والقبول به، ثمّ أقرّ للظّالم بمشروعيّة ظلمه، واعترف له بحقّه في الاغتصاب والاعتداء، فإنّه سوف ينتهي إلى حالة يصبح فيها جزءًا من منظومة الظّالم؛ بل أداة من أدواته، وقد كان المطلوب أن يصمد المظلوم، ويصبر في مجابهة الطّغيان سيرًا على سنّة الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}، ومن طلب شاهدًا على هذا التّحوّل في سلوك المظلوم من الاستجابة إلى ضغوط الواقع، إلى الصّيرورة كجزء من منظومة الظّالم، فلن يعدم مئات النّماذج في التّاريخ، وفي الواقع المعاصر، خاصّة، ما نراه في مسيرة دعاة الاستسلام الّذين ابتُلي بهم الواقع الفلسطينيّ والإسلاميّ اليوم، ويصدق في أتباعهم ومنظّريهم قوله تعالى، حكاية عن فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}، وعليه، فما نسمعه اليوم ممّن يتشدّق بالواقعيّة -أي الرّضا والتّسليم بالواقع – وجعل هذا الواقع مصدرًا لأخذ الحقوق على قاعدة “خذ وطالب”، وقاعدة التّدرّج في أخذ الحقوق، حتّى تحوّلت الحقوق إلى فتاتٍ يُستجدَى على مائدة اللِّئام؛ بل صورة من الرّكون إلى الظّلمة والاستسلام للواقع المهين .

متى استجاب المظلوم لضغوط الواقع من حوله، ورضي الاستكانة للظّلم والقبول به، ثمّ أقرّ للظّالم بمشروعيّة ظلمه، واعترف له بحقّه في الاغتصاب والاعتداء، فإنّه سوف ينتهي إلى حالة يصبح فيها جزءًا من منظومة الظّالم؛ بل أداة من أدواته

الخيار الثّاني: أن يفرّق المسلم بين قدرته على رفع الظّلم والاضطهاد، وبين إقرار الظّالم على ظلمه؛ فقد نعجز عن رفع الظّلم، ولكنّنا لن نعجز -بإذن الله- عن رفض الإقرار بالظّلم والعدوان والطّغيان.

نعم، قد نعجز عن قول الحقّ ونصرة المظلوم، لكن لا يمكن أن نقول باطلًا أو ننصر ظالمًا؛ فبصيص الرّفض للظّلم والطّغيان لا تخبو جذوته مهما كان ضعيفًا وضئيلًا، وسيظلّ يذكّي روح الأمل في النّصر، ولعلّ مجنون ليلى فطن لهذا المعنى في قوله:

لئن تمنعوا ليلى وتحموا حريمَها ::: عليّ فلن تحموا عليّ القوافيا

وهذا الخيار المبارك لن يتحقّق في مثل هذه الظّروف الصّعبة، إلّا بدوام التّذكير بالثّوابت الإسلاميّة في الموقف من الظّلم والظّالمين والطّغاة والطّغيان، والاستمرار في طرح التّصورات الإسلاميّة المتعلّقة بهذه القضيّة.

وخلاصة القول: إنّ الخيار الأوّل يجعل من الواقعيّة الموهومة مصدرًا للحلّ، وأنّ الخيار الثّاني يجعل من الثّوابت الإسلاميّة في الموقف من الظّلم والطّغيان مصدرًا للحلّ .

الأصل الثّاني: سنّة التّدافع والمدافعة:

من سنن الله في الكون والوجود والحياة سنّة المدافعة والتّدافع: وهي سنّة نؤمن بها، ونعدّها أصلًا عقديًّا نؤسّس عليه تصوّرنا في مواجهة الظّلم والطّغيان، فالحياة تقوم على ثنائيّات متغالبة يدفع بعضها بعضًا؛ الخير يدفع الشّرّ، والحقّ يدفع الباطل، والعدل يدفع الظّلم، وإعمار الأرض يدفع خرابها، والحرّيّة تدفع الاستعباد، والكرامة تدفع المهانة، والعزّة تدفع الذّلّ، والعلم يدفع الجهل، إلى غير ذلك من الثّنائيّات الّتي لا حصر لها.

أهل الحقّ في اختبار شديد أمام هذه السُّنّة الخالدة، فإن هم سعوا إلى التّناغم مع سنّة الله في كونه، تحقّقت لهم العزّة والكرامة، والتّمكين في الأرض، وإن هم سكتوا عن دفع الشّرّ بالخير، والظّلم بالعدل، عمّ الفساد والظّلم

إنّ أهل الحقّ في اختبار شديد وبلاء عظيم أمام هذه السُّنّة الخالدة، فإن هم سعوا إلى التّناغم مع سنّة الله في كونه، تحقّقت لهم العزّة والكرامة، وتحقّق لهم التّمكين في الأرض، وعمّ الحقّ والخير والعدل بين النّاس أجمعين، وإن هم سكتوا عن دفع الشّرّ بالخير، والظّلم بالعدل، والباطل بالحقّ، عمّ -حينئذ- الفساد والظّلم والباطل؛ إذ إنّ الباطل لا ينتشر إلّا بسكوت أهل الحقّ عليه، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، فعلينا أن نوقن أنّ التّقاعس والتّخاذل عن المدافعة مآله الاعتداء على أهل الحقّ قتلًا وظلمًا وتشريدًا، فوجب على المسلمين -من أجل ذلك- أن يقاوموا الظّلم والشّرّ والفساد والطّغيان إذا وقع عليهم، ليحفظ الله بذلك دينهم، وأنفسهم، وأهلهم، ودماءهم، وأعراضهم، وأرضهم، وأموالهم، فخير هذه الأمّة لن تناله إلّا بإحيائها أمر الله الشّرعيّ المتوافق مع سنّته الكونيّة بمقاومة المنكر وإحلال المعروف محلّه، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}، وقال أيضًا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، إذن، لا خيار أمام أهل الإسلام -إذا تعرّضوا للظّلم والطّغيان- إلّا أن يقاوموا جريًا على سنّة التّدافع، ولن يكتمل إسلامهم دون ذلك، ولا كرامة لهم إلّا بذلك، وما الواقع الّذي يعيشه المسلمون اليوم إلّا نتيجة واضحة لغفلتهم عن هذه السّنّة الرّبّانيّة والفريضة الإلهيّة.

في الختام، أضع هذه الأصول بين يديّ كلّ مظلوم، حتّى لا يزيغ عن طريق الحقّ، ويتّبع سبيل الّذين لا يعلمون، والله هو الهادي إلى الصّراط المستقيم .

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …