"البحث عن مراد الله!" سرى هذا الاصطلاح في الوسط الملتزم سريان النار في الهشيم. بدأت شرارته بقصد إصلاحي ووقع تنبيهي لأهمية العناية بفقه الدين كمرجع للحياة ودليل لحسن التعامل معها وفق سنن الله في أرضه. ثم انقلب في النهاية لنار حقيقية تسري في هشيم فعلي. فغدا المصطلح مظلة فضفاضة، تتسع للاعتذار عن التخاذل في أخذ الدين والحياة والعمر بقوة، وتمتد لتشمل تبرير التوهان المتكلف في أمر الله، والحيرة المتوهمة في كثير من الأحيان عن سبل رضاه.
ذلك أن مراد الله على الحقيقة واضح بيّن، فالدين قد اكتمل بالفعل، بما أنزل الله علينا من قرآن فَصْل، وبما تركنا عليه نبينا من "مَحَجّة بيضاء، ليلها كنهارها"، فليس من مزيد وحي يتنزل ولا رسول منتظر ليبعث ولا جديد هدى يُتوقع. واستشعار أن مراد الله شيء غامض في ظلام دامس مبثوث في مكان ما في أرجاء الكون، بما يستلزم أن يَهيم الفرد باحثا عنه ذات اليمين وذات الشمال، يكاد يساوي القول المباشر بأن الدين لم يكتمل، وأن الله حين قال {فاسْتَقِمْ كَمَا أمِرْتَ} قد طالبنا بمُتعذَّر علينا، لأنه لم يبين لنا ما أمَرَنا أن نستقيم عليه!
ولأن معرفة مراد الله وسبل مراضيه مراد الله إنما يتوسل له بأركان لازمة ثابتة بمقدور الكل. أولًا بدوام دعائه تعالى وصدق الافتقار لهداه والاستعانة به على الرشاد، ثم بالعلم الجاد الراسخ، ثم مكابدة الصدق في محاولة المعايشة، والصبر على ذلك ما امتدت بالمرء حياة. وليس له دهاليز أخرى خفية.
معرفة مراد الله وسبل مراضيه مراد الله إنما يتوسل له بأركان لازمة ثابتة بمقدور الكل
مراد الله ليس مفرقعات فجائية خارقة، ولا نجومًا تسطع في سماء البعض مصادفة وتترك أخرى مظلمة، ولا هبة تهبط على النائمين في المنام أو تزور المنتحبين على الأطلال. وإنما "يُستجلب" من عند الله كما سلف، بما أمر الله به، وما ترك بين أيدينا من سبل ووسائل تدل عليه، لكن لمن يأخذها بعزم ويصبر عليها بيقين، ثم لا يلتفت ولا يتذبذب، ولا يمل ولا ييأس. لكن كم من جاهل يقنع بالبكاء على أطلال الجهل، ومتعلم يصر على استشعار التيه رغم ما اتضح مما تعلم، ويتعجل ما لم يتضح دون صبر على الطلب، وعامل يستقل من العمل ما ظهر، ويتعجل ثمرة ما بعد، ثم يترك الكل مللًا أو يأسًا، فلا هو ثبت على ما تبين ولا هو بالتالي بلغ ما بعده.
والنمط أو القالب المتبادر للذهن عند ذكر اصطلاح الباحث عن مراد الله، أنه إنسان هلامي، تائه، شارد، حيران، حزين، مكتئب، يائس(!). ربما يصلي ويصوم بالفعل لكن دون التفات لروح تلك العبادات ومقاصدها، فذلك ليس على كل حال المراد الذي يبتغيه هو من مراد الله (!)، لأن مراد الله الذي ينتظر تكشفه له لابد أن يكون "ميزة" خاصة به تفرقه عن غيره (ويا له من حظ نفس صريح فتأمل!)
النمط أو القالب المتبادر للذهن عند ذكر اصطلاح الباحث عن مراد الله، أنه إنسان هلامي، تائه، شارد، حيران، حزين، مكتئب، يائس
وقد يسوء خلق ذلك الباحث، ويضيق صدره بمن حوله، ويطيش في أهله ومن حوله غضبًا، ويقلب البيت براكين مستفزة على الدوام، لكن هذا مبرر في حقه، لأنه مستاء بسبب خفاء أمر الله عنه، ولا يدخل في إساءته تلك مخالفة أمر الله بحال!
وقد يعمل في التطوع والإدارة في مؤسسة تطوعية أو دعوية أو خيرية، بما يشمل ضمن ما يشمل أوقاتًا مهدرة في السفسطة الفكرية، والمهاترات "الإدارية"، والدردشة "الدينية"، وإطلاق النظرات والابتسامات بغير ضابط من تقوى ولا رادع من ورع، لكن لا بأس، لأنه وسط كل هذه المعمعمة من المخالفات سيجد - بصورة ما - مراد الله التائه عنه!
وهكذا يُغرق "الباحث" نفسه في تِيه صَنَع دهاليزه باختياره، ويصر على الدوران حول نفسه والبوصلة في جيبه، ثم تلبس كل هذه الأعراض الانهزامية وعادات النفس التخاذلية وحظوظها من الدلال والتثاقل والتعجل واشتراط الثمرة، وتنسب لمراد الله، تعالى الله عن ذلك! وشتان بين الصبر على نفس تجاهد حتى تنقاد، والتمادي في إعذارها ومهاودة كسلها والتبرير لقعودها عن الأخذ بما تبين، وتلبيس ذلك بانتظار مراد ليس إلا صورة من صور حظ النفس بدرجات، وإن نسبه من نسبه إلى الله، تعالى الله عن ذلك.
وكم من منشغل عن الله باسم الله!
وكم من طالب لله يطرق باب كل خلق الله إلا الله!
وكل امرئ على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره!