في الحج، نطوف حول حجر، ونسعى بين حجر وحجر، ونحرص على تقبيل حجر، ونقف على حجر، ونرمي حجرا بحجر.
إنها الطاعة العمياء لله، والتي قال عنها أحد الدعاة (إن الله يحب أن يرى أثر قيوميته على عباده).
الأصل في العبادات التسليم، سواء وصل العقل إلى الغرض من #العبادة أو لم يصل، وسواء وصل العقل للغرض من تفصيلات العبادة أو لم يصل.
ولا تجب الطاعة العمياء إلا لله ولرسوله، والطاعة عموما لله ولرسوله هي طاعة مبصرة واعية، فإذا كان المفروض أو المسنون مما قد غابت حكمته الكلية أو حكمته التفصيلية فلا مكان حينها إلا للطاعة العمياء، التي يقول أربابها (سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير).
وحينها يكون اليقين أن للأمر حكمة يعلمها الله وإن خفيت عنا، أو أن حكمة الأمر برمتها هي الامتثال والطاعة، وتأكيد قيومية الله على عباده، حيث التسليم والطاعة المطلقة.
وللداعية السابق الإشارة إليه كلمة أخرى رائعة، ففي نهاية دعاء له يقول (يا أول لا من قبل آخر ويا آخر لا من بعد أول، فذاك في ذاك، فقف أيها العقل عند منتهاك).
نعم، للعقل منتهى لا بد أن يقف عنده، ولا بد أن يعلم أنه مخلوق لله، وقد وهبه الله عملا، وهو الفهم والإدراك، ووهبه قدرة محدودة على هذا العمل، قدرة محدودة غير مطلقة، وبالتالي فهو يحتاج في كثير من القضايا الكبيرة والصغيرة إلى هدي الله ووحيه، وإلا فإنه سيغرق في بحار العمى والجهل التي لا قاع لها.
للعقل منتهى لا بد أن يقف عنده، ولا بد أن يعلم أنه مخلوق لله، وقد وهبه الله عملاً، وهو الفهم والإدراك، ووهبه قدرة محدودة على هذا العمل، قدرة محدودة غير مطلقة، وبالتالي فهو يحتاج في كثير من القضايا الكبيرة والصغيرة إلى هدي الله ووحيه
و لهذا #العقل أن يبحث في كل تشريع سماوي عن الحكمة من تشريعه ابتداء، وعن الحكمة من تفصيلاته ثانية. فإذا ما وصل لهذه الحكمة فبها ونعمت، وذلك مراد لله ومقصود، يتيقن المؤمن من ورائه بحكمة الله في التشريع، وأهمية هذا التشريع لإصلاح الحياة الدنيا وإصلاح الفرد والنفس البشرية.
ولكن إذا عجز المؤمن عن الوصول لهذه الحكمة، فليس له إلا الإذعان والتسليم في النهاية، على أن يخضع العقل في ذلك مع كل الجوارح، خضوع من يعلم مداه ويقف عند منتهاه.
يطوف المؤمنون حول الكعبة، البيت المقدس الذي جعله الله مطافاً لعباده، فما الحكمة من هذا الطواف حول هذا الحجر؟. مجرد الطاعة والتسليم.
يسعى المؤمنون بين جبلي الصفا والمرة، فما الحكمة من ذلك؟ هنا تبرز قصة هاجر وولدها إسماعيل، عندما تركهما إبراهيم عليه السلام في صحراء مكة، فأخذت تسير بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء، حتى اكتملت لها السبعة أشواط، وهي الأشواط التي يسعاها الحاج. وتكمن الحكمة هنا في تذكّر قصة هذه الأسرة الصالحة، وتذكّر طاعتها لله وتسليمها، حتى ترك إبراهيم عليه السلام زوجته وابنه الرضيع في الصحراء امتثالاً لأمر الله.
يقف المؤمنون على جبل عرفة، يلبسون الثياب البيضاء، متوجهين لله بالذكر والدعاء، في أكبر إعلان بشري للتوحيد الخالص لله. وهذه هي الحكمة من هذا الفعل، الإعلان الأكبر للتوحيد في الأرض.
يرمي المؤمنون حجراً، يُرمز به للشيطان، يرمونه بحجارة صغيرة في صورة رمزية لرفض إغواء الشيطان والسير في طريقه، وهو فعل يشير إلى قصة إبراهيم عندما أمره الله بذبح ابنه، وجاءه الشيطان موسوساً له ولابنه ولزوجته من أجل أن يثنيهم عن الامتثال لأمر الله، فما كان منهم جميعاً إلا أن رموه بالحجارة.
يقبّل المؤمنون الحجر الأسعد، وهو حجر من حجارة الجنة كما ورد، فلماذا يقبّلونه؟ والجواب امتثالاً لأمر الله، حتى ولو بدا الأمر دون حكمة، وفي ذلك جاء ما رُوي عن عمر رضي الله عنه حين قال وهو يقبل الحجر الأسعد (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما فعلت).
لذا فالحج من أكبر العبادات التي تتمثل فيها الطاعة لله والامتثال لأمره في كل صغير وكبير، حتى وإن عجز العقل عن فهم المغزى من بعض الأفعال.
الحج من أكبر العبادات التي تتمثل فيها الطاعة لله والامتثال لأمره في كل صغير وكبير، حتى وإن عجز العقل عن فهم المغزى من بعض الأفعال
في يوم من الأيام شاهدت فيلماً وثائقياً عن البوذية، ووجدت من طقوسهم أنهم يحلقون شعرهم، وخصوصا رجال الدين فيهم، وفي لحظة خاطفة مني قلت مستهجناً (وما علاقة حلق الشعر بالدين؟). ثم تذكرت سريعاً حلق الشعر في الحج والعمرة، والمشهد لآلاف الناس وهم يحلقون لبعضهم، فقلت سريعاً سمعا وطاعة وخضوعا يا رب. لتستهجن عقولنا وترفض ما تشاء، إلا ما جاء من الله ومن رسوله، حتى وإن بدا لها غريباً وغير مبرر!
يقول أعداء الإسلام، إن #الحج عبادة المسلمين الكبرى فيها كثير من الوثنية، فالطواف حول الأحجار وتقبيلها ورميها ببعضها والوقوف عليها والسعي بينها، كلها أشياء شبيهة بالوثنية وقريبة منها، حيث عبادة الأحجار وتقديسها!.
الإسلام كدين هو أكبر خصم للوثنية، وعباداته هي أبعد ما تكون عن هذا التشابه المزعوم، ولا بد أن يعرف هؤلاء وأولئك أن الفارق عظيم بين تقديس الأحجار كآلهة تُعبد وتُقدم لها القرابين ويُعتقد في نفعها وضرها، وبين تقديسها بأمر الله، وهو تقديس في الحقيقة لله ولأمره ولمراده. هو تقديس لما أمر الله بتقديسه مع اليقين بأنها مجرد طريق لإرضاء الله ولإثبات قيوميته على عباده، واليقين بأنها مجرد حجارة لا تنفع ولا تضر.
وفي الذبح يوم العيد للحاج ولغيره، يتحدث الخصوم ويُكثرون حول الدموية في الحدث. وهو حديث بائس، فهؤلاء الذين يذبحون ليل نهار من أجل الطعام، يعيبون على الإسلام أن شرع ذبحاً جماعياً في يوم من الأيام، اقتداء بسنة إبراهيم عليه السلام حينما ذبح ذبيحته فداءً لولده، وامتثالاً لأمر الله، وإكراماً وإغناءً للفقراء والمحتاجين. ألا ما أبأس الأعداء وأتعسهم حينما يهاجمون ويتهمون، لمجرد الخصومة والعداء.
الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل غيره، وشريعته هي شريعة الله الخالدة للعالمين، والتي فيها صلاح الناس في الدنيا والآخرة، وعباداته هي أسمى الطرق للوصول إليه، وهي عبادات على المؤمن أن يتعبد بها لله راضياً محتسباً، سواء أدرك حكمتها أو لم يدرك، وعليه الامتثال في ذلك لكل تفصيلات هذه العبادات كما أرادها الله، فإن الله يحب أن يرى أثر قيوميته على عباده.