من بين المهام التي تواجه أي كيان منظَّم أو مؤسسي، هي قضية التخطيط؛ كيف تخطط لخطواتك ومشروعاتك الآنية والمستقبلية؛ بل إنها من بين أهم مهام الإنسان الرشيد حتى على مستوى حياته اليومية، في ظل التعقيد الحاصل في مفردات الحياة وفي التزاماتها، بحيث صار التحرك من دون تخطيط مستقبلي؛ شكلاً من أشكال العشوائية، ويقود إلى فشل حتمي.
ويرتبط ذلك في العلوم الإدارية والتنمية البشرية، بأحد أهم المجالات "الجديدة" التي بدأ العالم منذ فترة بالاهتمام بها، وهي الدراسات المستقبلية "Future studies" والاستشراف أو الـ"Foresight".
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هذه النوعية من التخطيط، كمجال علمي؛ لم يبدأ الاهتمام بها في عالمنا العربي، سوى متأخرًا بشكل نسبي، ربما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما هي في الغرب، إحدى مجالات الاهتمام الكبرى منذ حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما أطلق العالِم والمفكر الألماني، أوسيب فلختهايم، وللمرة الأولى، مصطلح "علم المستقبل" "Futurology".
هذه النوعية من التخطيط، كمجال علمي؛ لم يبدأ الاهتمام بها في عالمنا العربي، سوى متأخرًا بشكل نسبي، ربما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما هي في الغرب، إحدى مجالات الاهتمام الكبرى منذ حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية
ومنذ سنوات نهاية الأربعينيات من القرن الماضي؛ شهدت الكثير من مجالات العلوم الإدارية - سواء على المستوى النظري، أو في المجالات التطبيقية، مثل عمل الشركات، وحتى مجالات البحث العلمي المختلفة- تطورًا كبيرًا، وكان لهذا أبلغ الأثر في النقلة النوعية التي حققتها الأمم التي أخذت بهذه التطورات.
ولو نقلنا المجال الموضوعي للقضية إلى الحديث عن الحركة الإسلامية في وقتنا الراهن؛ فإننا نقف أمام مجموعة من الأمور التي تستوجب الدراسة ولفت الانتباه إليها.
فعلى الرغم من التطور الكبير الذي لاحقته الجماعات الإسلامية الكبرى الأكثر تنظيمًا، مثل "الإخوان المسلمون"، في مجالات مختلفة، مثل التربويات، والعمل التنظيمي، وأنشطة التدريب والتأهيل، بما في ذلك الدراسات النفسية، إلا أنها –للآن– لم تدخل هذا المجال المفيد للغاية بالنسبة لهذه النوعية من المؤسسات.
فالحركات الإسلامية في النهاية هي شكل من أشكال الأطر المؤسسية، وتزيد عليها في أنها تتحرك في إطار بيئة اجتماعية وسياسية متعددة الأبعاد، داخلية وخارجية، إقليمية ودولية، والكثير من هذه البيئات، عدائية، وبالتالي؛ فإنها أولى من أي طرف آخر، الاعتماد على قواعد التخطيط السليم، وأحدث ما وصلت إليه العلوم الإستراتيجية في هذا المجال، وأهمها الآن، مجال الدراسات المستقبلية والاستشراف.
ولعل من بين المشكلات الهامة التي يجب الالتفات إليها أولاً في هذا السياق، هو عائق مهم يخص الحالة الحركية الإسلامية، وهو شدة الارتباط بالتراث.
وبطبيعة الحال، فإنه من المنطقي أن يغلب التراث على تفكير الحركيين؛ حيث المصادر الشرعية الأصلية، وحيث تراكمت الأحكام الفقهية في المستجدات والمواقف الكبرى، فيقف الحركيون أمام التراث للأخذ منه عندما تُعرَض عليهم حالة أو موقف مُستَجد.
ولكن الوقوف فقط أمام التراث، أو المبالغة في الأخذ من التراث؛ تحول إلى أمرٍ معطِّلٍ وفق ما نراه على أرض الواقع.
ولعل الأزمات التي واجهتها الحركات الإسلامية المختلفة، في دول عربية عديدة، من خلال تحليل دقيق للموقف، يعود إلى غياب ثقافة التوقع المستقبلي، وفق مؤشرات التاريخ والواقع القائم.
ويُعرَّف "علم المستقبل" على أنه ذلك العلم الذي يدرس المحتمل والممكن والمفضَّل من المستقبل، بجانب الأشياء ذات الاحتمال الضعيف الوقوع، ولكنها ذات تأثيرات عظيمة لو وقعت، وكذلك الاحتمالات العالية المتوقعة عالية الحدوث.
وهناك مجموعة من المبادئ التي تستند إليها الدراسات المستقبلية، وتبدأ بأخذ العبرة من الماضي من خلال منظومة من الدراسات المنهجية، وما يمكن أن تقود إليه التطورات الماضوية من آثار على المستقبل.
يلي ذلك وضع تصور للمستقبل، سواء القريب، أو البعيد، وقد تضع بعض الكيانات المؤسسية والحكومات خططًا مستقبلية لعقود قادمة.
ويُراعى في ذلك أنه من الأهمية بمكان تجنب أي تأثيرات للهوى السياسي أو الانتماء الأيديولوجي، والعمل وفق المنطق الموضوعي، وانطلاقًا من الواقع الصلب والثوابت المتفق عليها.
ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أنه لا تعارُض بين الماضي والدراسات المستقبلية كما تقدم.
بل إن بعض الأكاديميين يرون أن أهم من وضع أسس علم المستقبليات كان مؤرخًا وفيلسوفًا، وهو الإنجليزي هربرت جورج ويلز الذي عاش بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ووضع القواعد الأولى للدراسات المستقبلية من خلال أولاً موسوعته التاريخية الشهيرة؛ "موجز تاريخ الإنسانية".
إلا أن محمد إبراهيم منصور، مدير مركز دراسات المستقبل في جامعة أسيوط، ومؤسس ومدير مركز الدراسات المستقبلية في مجلس الوزراء المصري، يقول في دراسة له بعنوان: "الدراسات المستقبلية.. ماهيتها وأهمية توطينها عربيًّا"؛ قدمها إلى ورشة العمل حول الدراسات المستقبلية ضمن فعاليات منتدى الجزيرة السابع، بالعاصمة القطرية الدوحة، منتصف مارس 2013م؛ إن البذور الأولى وضعت قبل المحاضرة الشهيرة التي ألقاها ويلز في السادس والعشرين من يناير من العام 1902م، أمام المعهد الملكي البريطاني، ودعا فيها إلى دراسة المستقبل والاستشراف.
فهناك "نظرية مالتوس" الشهيرة للقس الإنجليزي، توماس مالتوس، التي تحدث فيها عن نظرية الانفجار السكاني، بسبب شُحِّ الموارد، وكذلك المفكر الفرنسي، كوندرسيه، الذي وضع كتابًا بعنوان: "مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري"، ونشر في العام 1793م.
وهذا الكتاب من الأهمية بمكان في التأكيد على أنه لا تقاطع أبدًا بين النظرة إلى الماضي، والأخذ من التراث، وبين متطلبات العلوم المستقبلية.
وفي ذلك، يقول الباحث أحمد طومان في دراسة له بعنوان: "الدراسات الاستشرافية في العالم الإسلامي"، ونشرها موقع "طريق الإسلام" في نفس توقيت دراسة منصور، إنه على خط الزمن لا يمكن استيعاب مرحلة ما إلا بتحقيق قدر كافٍ من الاستيعاب لما يسبقها؛ فلن نفهم الحاضر إلا باستيعاب الماضي، ولن نقرأ المستقبل إلا بفهم الماضي والحاضر".
لا يمكن استيعاب مرحلة ما إلا بتحقيق قدر كافٍ من الاستيعاب لما يسبقها؛ فلن نفهم الحاضر إلا باستيعاب الماضي، ولن نقرأ المستقبل إلا بفهم الماضي والحاضر
ومخطئ مَن يتصور أن هذا العلم بعيدٌ عن السياقات الفكرية الإسلامية، فطومان أشار في دراساته إلى نماذج قرآنية ونبوية توضح أن الإسلام قد احتوى في منابعه الأساسية الأولى على ملامح عدة من علم الدراسات المستقبلية، والتي تستند إلى تجارب الماضي.
وأشار في ذلك إلى ما جاء في القرآن الكريم حول قصص الأولين، وقصص الأنبياء، وتداول الأيام بين الناس؛ حيث هذا القصص في جانب منه، هو إعلام النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، والأمة، بما سوف تقابله في مسيرتها.
الإسلام قد احتوى في منابعه الأساسية الأولى على ملامح عدة من علم الدراسات المستقبلية، والتي تستند إلى تجارب الماضي
وهو ما عبَّر عنه ورقة بن نوفل لرسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما قال له: "ليتني أكُن حيًّا إذ يخرجك قومك"، هنا توقُّع ورقة المستقبلي، والذي حدث بالفعل في العام الثالث عشر للبعثة، كان مبنيًّا على تجارب الأنبياء السابقين على الرسول "عليه الصلاة والسلام".
ويمكن القول باطمئنان إنه لو كانت الحركات الإسلامية قد اهتمت بهذا المجال من العلوم والدراسات خلال السنوات الأخيرة، انطلاقًا من تجارب الماضي القريب والبعيد مع الأنظمة العربية؛ لكانت قد تفادت الكثير من الأزمات الحالية.
إلا أن الوقت لم يفُتْ بعد، ويمكن البناء على ما جرى، من أجل وضع إستراتيجيات حركية أكثر واقعية وجدوى، تحقق المستهدفات الآنية والمستقبلية للحركات الإسلامية الطليعية.