من المعروف أن معظم أفعال وأقوال الرسل تعتبر تشريعاً لأممهم التي بعثوا فيها، ومن المعروف كذلك أن أفعال بعض الصالحين التابعين لهؤلاء الأنبياء قد تتحول لتشريع وذلك بعد أن تفرضه الرسالة السماوية على الناس مثلما حدث مع الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حكم في أسرى بدر بالقتل، وحين تمنى الحجاب على المسلمات فنزلت آية الحجاب فريضة على حرائر المسلمين، لكن التاريخ لم يذكر سوى امرأة واحدة من أسرة فريدة تحول فعلها إلى منسك يتعبد به المسلمون إلى قيام الساعة ليس لمجرد أداء حركات جسدية ترهق البدن، وإنما لغرس عقيدة صلبة واستسلام منقطع النظير وتوكل مكتمل الأركان لرب العالمين، إنها هاجر عليها السلام، فماذا كان فعلها تلك السيدة الطاهرة، وهذه الأسرة المباركة، وكيف كان يقينها وتوكلها وإيمانها:
إمرأة تزوجها رجل بأمة، لم ينجب من زوجته الأولى وتشتاق نفسه للولد بينما هو في الهرم، فيمنحه الله الولد في تلك المرحلة من عمره، وبمجرد أن تسكن نفسه لهذا الوليد، وتمتلئ عينه به، يأمره الله عز وجل بالهجرة بهم إلى الصحراء، حيث يحرم من ولده وزوجته، وحيث يتركهم في العراء لا ملاذ، لا مأوى، لا مأكل، لا ونيس، تسير معه الزوجة المؤمنة دون سؤال، فهي ليست امرأة عادية، إنها زوجة نبي مصطفى ليكون للرحمن خليلاً، وهي أمة لله تؤمن به وتتوكل عليه وتوقن أنه أبداً لن يضيعها، تربت وشربت من معين النبوة الصافي فاستقامت جوارحها، واستسلمت روحها.
يا ابراهيم، هل ستتركنا هنا، وابراهيم لا يجيب وإنما يولي ظهره مدبراً دون جواب، آالله أمرك بهذا؟ فلم يفعل سوى أن يومئ برأسه أن نعم، فتطمئن المؤمن وتجيب باليقين كله: إذن لا يضيعنا.
ويمضي خليل الرحمن ممتثلاً لأمر ربه تاركاً إياهم في بلد غير ذي زرع أو إنسان أو حيوان، ابنه الوليد الوحيد، وزوجته الضعيفة، يمضي مطمئناً كما كانت هي مطمئنة مردداً {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
يمر يوم وتغرب الشمس ويأتي الليل ووحشته وليس للأم شاغل سوى التعبد لله وإرضاع وليدها وتمضي الأيام لينفذ الماء والطعام ويجف غذاء الوليد في صدرها فلا تجزع، ولا تغضب، ولا تتساءل لماذا فعل بنا إبراهيم هذا؟ ولماذا تركنا في العراء منفردين؟ وما الجرم الذي جنيناه ليعاقبنا بإبعادنا!
هكذا المؤمن، حين يدخره رب العالمين لمهمة تشق عليه لتثاقله إلى الأرض فلا مناص من إعداده لها بما يليق بعظمتها، حتى إذا تهيأ لها روحياً فتوجهت روحه خالصة إلى السماء، وتطهرت نفسه كاملة من دنس الأرض، أتاه الفرج من حيث لم يكن يدري.
حين يدخر رب العالمين المؤمن لمهمة تشق عليه فلا مناص من إعداده لها بما يليق بعظمتها، حتى إذا توجهت روحه خالصة إلى السماء، أتاه الفرج من حيث لم يكن يدري
ومع الاستسلام الكامل لله والرضا الجميل باختياره كان التوكل الصحيح عليه سبحانه، وعلمتنا هاجر الأم المرضع درساً يجب ألا ينساه المسلمون أبداً، هرولت هاجر بين جبل الصفا صاعدة للبحث عن ماء أو أي شيء تتقوت به، ومع علمها، بل ويقينها بأنه لا يوجد ماء في هذه المنطقة القاحلة، فلا يوجد طير أو إنسان يعبرها، إلا أنها هبطت من الصفا لتهرول إلى جبل المروة باحثة دون فتور أو كلل، المسافة كبيرة والعمل شاق، لكن الوليد الجائع يصرخ ألماً، والأم المتلهفة عليه لا تتواكل بحجة التوكل، سبعة أشواط بين الصفا والمروة تبحث عن مخرج، وهنا تتدخل إرادة الله وعونه وعجزاته، فحين يبلغ الجهد بالانسان مبلغه، وحين لم يعد قادراً على البذل أكثر بعد استنفاذ كل الأسباب المتاحة لديه، وحين تنغلق كل أبواب الأرض، هنا فقط تنفتح أبواب السماء على مصراعيها لتتنزل الملائكة بالغوث الرباني ليكون هو حق التوكل على الله، يرسل الله عز وجل جبريل من السماء ليضرب بجناحيه الأرض فيتفجر الماء من بين أقدام الوليد المبارك فتشكر المؤمنة التقية ربها، وتحيط الماء بالحصي والرمال خوفاً عليه قائلة زمي زمي، لتكون زمزم التي تسقي الملايين من حجاج بيت الله الحرام إلى قيام الساعة، ويتحول فعل امرأة متوكلة على الله حسن التوكل إلى منسك في ركن أعظم من أركان الاسلام وهو السعي بين الصفا والمروة، ليتعلم المسلمون أن فرج الله أقرب إلينا من مدى أبصارنا، لكن يلزمه أن نرسل الأبصار ونجهد الأبدان ونعمل الفكر لتتفجر الأرض به أو تنفتح أبواب السماء من فوقنا.
حين يبلغ الجهد بالانسان مبلغه، وحين لم يعد قادراً على البذل أكثر بعد استنفاذ كل الأسباب المتاحة لديه، هنا فقط تنفتح أبواب السماء لتتنزل الملائكة بالغوث الرباني
إن المنتظرين من الله عز وجل أن يفرج عن الأمة ما بها من هم وغم وهزيمة وضعف وهوان على الناس بينما هم نائمون على أسرتهم، أو منشغلون في البحث عن أرزاقهم، أو خائفون معرضون عن العمل حرصاً على أبنائهم، يسيئون الظن برب العالمين لمخالفتهم لما هو مطلوب منهم!
رحمة الله على أمنا هاجر وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا إبراهيم وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.