يقول الله تعالى في محكَم التنزيل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سُورة "البقرة" - الآية 125].
وبالرغم من أن الآية الكريمة لم تقيِّد مصطلح "لِّلنَّاسِ"؛ إلا أننا نقف، كأمة مسلمة، ومنذ بضعة عقود من الزمن، أمام حقيقة مخيفة، لا تتفق بالإطلاق مع قداسة المكان، ولا أوامر الله تعالى وترتيباته بشأنه؛ عندما لم يعد البيت مثابةً للناس، وباتت قيود السياسة الضيقة تحكم وصول المسلمين إليه.
ومبعث هذا الحديث، الأزمة الراهنة في العلاقات ما بين المملكة العربية السعودية مع كل من قطر وإيران، والتي تصاعدت على إثرها أصوات عدة من الدوحة وطهران، ومن بعض العواصم والسياسيين المؤيدين لكلا البلدين في أزمته مع الرياض؛ لتدويل المشاعر الحرام في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ولا تعنينا في هذا الموضع، أسباب الأزمة، أو تحديد مَن هو على حق ومَن هو على باطل في الأزمة الراهنة في العلاقات على النحو المشار إليه بين كلٍّ من الرياض من جهة، والدوحة وطهران من جهة أخرى، أو الانحياز إلى طرف على حساب طرف، وإلا كنا نرتكب ذات الخطيئة التي نعيبها على الآخرين، وهي الترويج للفرقة والخلاف بين المسلمين.
وإنما يعنينا في هذا الإطار، توضيح كيف أدت السياسة الضيقة المتعلقة بخلافات الأنظمة والحكومات، إلى التأثير على هيبة الفريضة والمكان، وكيف حولت هذه السياسة المشاعر الحرام إلى "أداة وظيفية" للمماحكات السياسية بين هذه الأنظمة والحكومات، مع نقض أهم الأركان التي فُرض #الحج لأجلها، وهو توحيد الصف الإسلامي، واجتماع المسلمين من كافة أرجاء الأرض.
لا يجوز بالإطلاق أن يتحمل الحجيج من أبناء الشعوب المسلمة في أي مكان على وجه الأرض، ذنوب السياسة والخلافات بين الحكومات والأنظمة
والقرآن الكريم شديد الوضوح في هذه النقاط؛ فيقول الله تعالى في سُورة "الحَج": {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}.
ويخبرنا التاريخ، أن المسجد الحرام كان عبر تاريخه الطويل، موئلاً لكل أهل شبه الجزيرة العربية وما حولها، سواء ممن كانوا على ملة سيدنا إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أو مَن كانوا حتى على الشِّرك أو غير ذلك من المذاهب والأديان، مثل الصابئة.
وكان فيه المنافع التي تكلم عنها القرآن الكريم، والتي مَنَّ الله تعالى بها سواء على المؤمنين، أو غير المؤمنين، وسواء أكانت هذه المنافع دينية، أم اقتصادية، ممثلة في الاسواق التجارية والسقي والرعي، وغير ذلك.
ودليلنا في ذلك من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سُورة "البقرة" - الآية 126].
وبالتالي؛ فإننا أمام صورة قرآنية يزكيها التاريخ المؤكد والموثوق، تقول بأن البيت الحرام للناس كافة؛ يستفيد الجميع من منافعه، وخصوصًا منافع موسم الحَج، كما أنه لا قيود على الوصول إليه.. {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
وبالرغم من أن قريشًا قد شرَّفها اللهُ تعالى من دون كل قبائل العرب بخدمة البيت الحرام والمشاعر المحيطة به؛ إلا أنه، وعبر التاريخ، لم تستطع أن تمنع أحدًا من القدوم إلى البيت الحرام للطواف والسعي والتجارة، سواء في موسم الحَج أو في غيره؛ لأن البيت ليس ملكًا لها، وإنما هي فقط قدر اللهُ تعالى أن تكون هي الجهة المشرفة عليه والخادمة له وللقادمين للحج، وهو ما منح قريشًا شرفها وكبرياءها، وجعلها مُقدَّرة بين العرب.
وربما كان الموقف الخاص بصلح الحديبية استثناءً وحيدًا عبر التاريخ؛ عندما قامت قريشٌ –بموجب أنها السلطة المشرفة على البيت– بمنع المسلمين القادمين من المدينة المنورة من أداء فريضة الحج في العام السابع للهجرة.
بالرغم من أن قريشًا قد شرَّفها اللهُ من دون كل قبائل العرب بخدمة البيت الحرام؛ إلا أنه، وعبر التاريخ، لم تستطع أن تمنع أحدًا من القدوم إلى البيت الحرام إلا في عام الحديبية
فحتى في أوقات الأزمات والاضطرابات، مثل أيام ثورات الشيعة القرامطة والزنج، واضطرابات الشعوبيين؛ فإن سلطات الدولة الإسلامية –أيًّا كانت هويتها– التي كانت تشرف على الحرمَيْن والمشاعر؛ لم تمنع الحجيج من أي مكان من القدوم، حتى ولو كانت الظرف الأمني يمنع ذلك، مثل انتشار قُطَّاع الطرق حول مكة المكرمة أو المدينة المنورة، بسبب ضعف الدولة المركزية في بعض الأحيان.
ولتقريب الصورة؛ فإن الأمر قريب من موضوع قناة السويس؛ حيث إنها بالرغم من أنها تقع في الأراضي المصرية؛ فإن مصر لا يمكنها بموجب القانون الدولي إغلاق القناة؛ لأنها مرفق ملاحي دولي يستفيد منه الجميع، في المقابل ضمن القانون الدولي في وقت السلم والحرب، الحقوق المصرية في ضمان حقوق المرور البرئ وحماية مصالح الدولة في حالة كونها في حالة حرب مع بلد آخر؛ حيث يمكن لمصر في هذه الحالة غلق الملاحة في قناة السويس في وجه هذه البلد الآخر.
في هذا الإطار، ومن خلال النص القرآني، والتجربة التاريخية التي قدرها الله تعالى كما أراد بطبيعة الحال؛ فإن الحكومة السعودية من حقها أن تكون هي المشرفة على البيت الحرام والمشاعر في مكة المكرمة والمدينة المنورة، باعتبار أنها السلطة التي قدر الله تعالى لها أن تكون هي الموجودة في هذه المناطق.
إلا أنها في المقابل، لا يمكنها أن تمنع راغبي الحج والزيارة في أي وقت، من أن يفدوا، إلا لاعتبارات موضوعية بحتة، مثل حفظ الأمن، وضمان عدم انتشار الأوبئة، بالذات في الأوقات التي يكون فيها موسم الحج في فصل الصيف، أو وجود وباء في بلد ما، ومراعاة أن العدد القادم في طاقة استيعاب الحرمَيْن الشريفَيْن، بعد زيادة أعداد المسلمين إلى ما يقرب من مليار ونصف المليار مسلم.
لا يمكن للسلطة القائمة على شؤون الحرمَيْن أن تمنع راغبي الحج، من أن يفدوا، إلا لاعتبارات موضوعية بحتة، مثل حفظ الأمن، وضمان عدم انتشار الأوبئة، وطاقة استيعاب الحرمَيْن
وكل هذا لا غبار عليه شرعًا، ويدخل في قانون الاستطاعة والطاقة الذي نص عليه القرآن الكريم، وفي باب النظام المحمود، والذي من الواجب حتى على الحكومة السعودية القيام به، في مقابل ما تتحصل عليه من منافع اقتصادية هي من صميم حقها وفق ما يخبرنا به التاريخ، باعتبار أنها السلطة القائمة على شؤون الحرمَيْن، من مختلف موارد الحج، مثل رسوم التأشيرات وإنفاق الحجيج، وغير ذلك.
ولكن المشكلة هنا أن يتحول الأمر إلى سياسة منح ومنع على أسس سياسية تخص السعودية؛ لا للاعتبارات الموضوعية السابقة؛ أي وفق نظرة الرياض إلى هذا البلد أو ذاك، صديق أم عدو.
وحتى في هذه الحالة؛ لا يجوز بالإطلاق أن يتحمل الحجيج من أبناء الشعوب المسلمة في أي مكان على وجه الأرض، ذنوب السياسة والخلافات بين الحكومات والأنظمة.
وما حدث في الآونة الأخيرة، وفق ما تقوله بعض العواصم مثل طهران والدوحة، أن الرياض وضعت عراقيل لمنع حجاج بيت الله الحرام من زيارته في أكثر من موسم، مثل موسم العام الماضي 1437ه، عندما لم يستطع الحجاج الإيرانيين أن يأتوا إلى البيت الحرام والمسجد النبوي.
الحكومة الإيرانية هي التي منعت حجيجها من زيارة الأماكن الحجازية، ولكنها تقول إن ذلك جاء بسبب تعنت الرياض تجاه الحجاج الشيعة، ومنعهم من أداء بعض الطقوس الخاصة بهم.
من ناحية أخرى؛ يمكن بالفعل تفهُّم المبررات السعودية في هذا المنع. فالغالبية الساحقة من حجاج بيت الله الحرام، وزوار المسجد النبوي الشريف، من السُّنَّة، وبعضهم من مذاهب سلفية شديدة التقليدية أو المحافَظَة، وبالتالي تستفزهم ما يعتبرونه سياسة أو شركيات في بعض الطقوس التي يقوم بها الحجاج الشيعة، مثل ما يُعرَف بـ"طقوس البراءة"؛ حيث يعتبرونها بدعة سيئة وخروج عن الدين.
كما أن الرياض تقول بأنه لا لتسييس موسم الحج، وبالتالي؛ فهي لا تسمح برفع أو ترديد أية شعارات، مثلما يقول الحجاج الإيرانيون "الموت لأمريكا" مثلاً، أو حتى كما حاول بعض الإخوان المسلمين من مصر، رفع شعار رابعة في موسم الحَج التالي لمجزرة الفض في أغسطس من العام 2013م.
في المقابل؛ لا يمكن قبول دعاوى التدويل على إطلاقها. فالشاهد أن حوادث التاريخ – التي تُعبر بطبيعة الحال عن إرادة الله عز وجل في هذه المناطق – تخبرنا بأنه دائمًا ما تكون هناك سلطة موحدة تهيمن على شؤون المسجد الحرام، والمسجد النبوي بعد بعثة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
كما أنه لا يمكن بضمير مستريح قبول فكرة أن العواصم التي تدعو أصواتٌ فيها للتدويل، تطرح ذلك خشية حقيقيةً منها على مصالح المسلمين في هذه الأماكن، أو أنها دعوات خلوًا من الأهواء السياسية.
وفي الأخير، فإنه من غير المقبول أن يستمر هذا الوضع الذي يسيء للإسلام والفريضة والأماكن الحرام، أمام العالم غير المسلم، فهو على أبسط تقدير سوف يعيق جهود الدعوة الإسلامية في أوساط غير المسلمين.
كما أنه لا ينبغي من الأصل أن تسود الصراعات والخلافات بين البلدان المسلمة من الأصل، أو أن تتحمل مقدساتهم وشعوبهم ثمن هذه الخلافات والصراعات.
وبالتالي؛ فإن الحل الصحيح، هو الرجوع إلى الأصول التي يخبرنا بها القرآن الكريم، وأصلها لنا التاريخ، في صدد المساحة المسموح للسلطة القائمة في الحرمَيْن الشريفَيْن والمشاعر المقدسة، وكذلك المسموح وغير المسموح به في هذه الأماكن من جانب الحجيج.