شجاعة العقول وتغيير الواقع

الرئيسية » خواطر تربوية » شجاعة العقول وتغيير الواقع
شجاعة العقول

التاريخ مكتظٌّ بمواقف الشجعان، التي تزخر بالإقدام والبطولة، مواقف وحكايا تشحذ الهمم وتحفز القلوب وتبهر العقول حين تُحكى، فهذا يقدّم حياته، وتلك تدفع بنيها وزوجها إلى الوطن فداء، ما أكثر هؤلاء في الحقيقة، وما ألمع مواقفهم على مر الزمان. ومن يطلع على التاريخ يقرأ من هذه النماذج ما يبهج ويتمناه لهذا العصر الذي نعيشه.

لكن للأسف كل هذه المواقف بهيبتها وأثرها وكل ما توحي به من جسارة في القلب وإقدام على المخاطرة والمغامرة بكل شيء، والتضحية بكل شيء في سبيل افتداء قيمة أو مبدأ أو شيء ماديّ، هي لا تتعدى إشارة القلب والعاطفة.

إلا أن هناك نوعًا آخر من الشجاعة نماذجه أقل، أثره أكبر، قلة من تمارسه وتعرفه من البشر، بالرغم من عظمة أثره وقوة حضوره، وهو ما يسمى بشجاعة العقل، ذلك النوع النادر من الشجاعة والمتعلق بالتفكير، التحكّم العقلي، والفراسة.

بين شجاعة العقل وشجاعة القلب:

برغم أن شجاعة العقل أكثر صدقاً من شجاعة القلب؛ لأنها مبنية على أرضية صلبة، بينما القلب يوصف بالطائش، ولأن القلب يدعوك لفعل كل شيء من أجل الآخرين أما العقل فيشد انتباهك دائماً إلى نفسك، لتقرأها جيداً وتخطط لأجلها.

الفرق بين شجاعة القلب الرائجة، وشجاعة العقل النادرة هو مصدر التحكم والقيادة

الفرق بين شجاعة القلب الرائجة، وشجاعة العقل النادرة هو مصدر التحكم والقيادة، ففي النوع الأول تتحكم العاطفة وهي بنت القلب التي تلين وتلين حتى تميل للتساهل في ما لا يمكن التساهل به أحيانًا، بينما النوع الثاني يتحكم به التفكير وهو ابن العقل الذي يظل مستقرًا راسخاً مُصرًّا أمام التقلبات وطلبات التنازل والتخلّي، وهو نادر كما أسلفت، يقول الشاعر أحمد شوقي:

إن الشجاعة في القلوب كثيرة :: ورأيت شجعان العقول قليلاً

وشجاعة #العقل مبنية على رؤية بعيدة، لا يتقنها القلب، لذلك كان أصحابها قلّة، فبعد الرؤية يتطلب الصبر الطويل أولًا، بالإضافة إلى الكثير جداً من المران، الممارسة، التأمل، التخيّل، التفكّر، ومع ذلك كله سعة الأفق والمثابرة بالمطالعة والقراءة والتدبر في التاريخ والكون والتراجم.

وشجاعة العقل تشمل التفكير، المنطق، الذكاء والفراسة وسرعة البديهة والعمق والتبصر والتنوّر، لكنها أوسع بكثير من كل مصطلح منها إن ذكرناه منفردًا، واجتماع هذه الأمور وغيرها - مما سأعرج عليه لاحقًا – يأخذ العقل إلى مراتب متعددة لعل أعلاها العقل الشجاع، وقد فصّل كل من المفكرين العربيين: ابن عربي وابن رشد في مسألة تعدد العقل كثيرًا، حتى قال ابن عربي: "إنّ للعقول حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة"

ولعل أشهر مثال على شجاعة العقل موقف سقراط حين لفقت له تهمة إنكار آلهة أثينا، وإفساد عقول الجيل، لكنه حين قُدم للمحاكمة دافع عن نفسه بثقة العارف بأنه على حق، وواجه التهم الكيدية بالرفض، حتى ثار القضاة، وحكموا عليه بالإعدام، وسجن حتى ذلك الحين!

هنالك عرض عليه بعض أصدقائه وتلامذته أن يهرّبوه من السجن، إلا أنه رفض الهروب، وقرر مواجهة مصيره، فقتل نفسه بالسم؛ لأن الأمر بالنسبة إليه مرتبط بالأخلاق التي بنى فلسفته عليها، وهنا قال قولته الشهيرة لأصدقائه وتلاميذه: "سيذهب كل منا في طريقه، أنا في طريقي لأموت، وأنتم في طريقكم لتعيشوا، والله يعلم أيّ الفريقين أهدى سبيلا" ولذلك قال فيه أحمد شوقي بيته المذكور آنفًا.

لماذا يستطيع شجعان العقول أن يغيروا الواقع؟

وصلنا إلى بيت القصيد، والذي لأجله عرّجت على قصة سقراط الذي أقدم على الانتحار - وإن كان الانتحار محرّماً – لكنه تقدّم إليه بعد أن ترك مقولة مأثورة، ولم يرض أن يموت فيذكر في التاريخ كضعيف مظلوم، بل صاحب حق اختار مصيره بيده في لحظة حاسمة.
فشجعان العقول أقوياء ذهنيًا، عمومًا، تجدهم يتقدمون في حيواتهم متحملين كل أخطاء ماضيهم وإخفاقاتهم؛ فهم يتمتعون بطاقة مستديمة، تجعلهم جاهزين للعمل والنجاح، وقادرين على التغلب على الفشل، لأنهم يدرسون كل شيء بدقة، فهم يتفكرون في التقدم باستمرار ويفكرون بإيجابية، فيستطيعون السيطرة على الأوضاع، ولا ينفرون من التغيير بل يؤمنون به بشدة، وذلك ما يجعل تقدمهم وسيطرتهم احترافيين، ويظلون مع ذلك متأهبين طوال الوقت للمغامرة والمخاطرة المحسوبة، كما أنهم يستثمرون طاقاتهم بحكمة في تغيير الواقع بعد دراسة أبعاده، وغالبًا ما تجد أحكامهم على الواقع توافق قناعات متينة لديهم.

فشجعان العقول أقوياء ذهنيًا، عمومًا، تجدهم يتقدمون في حيواتهم متحملين كل أخطاء ماضيهم وإخفاقاتهم؛ فهم يتمتعون بطاقة مستديمة

أما على الجانب الإنساني فهم ليسوا انعزاليين تماماً بل اجتماعيون، تجدهم دوماً سعداء طيبون، يحتفون بنجاح الآخرين، يتكيفون مع الظروف، ويستمتعون بأوقاتهم إذا كانوا وحدهم بالذات؛ لأنهم يعرفون أن الجسد بحاجة للترفيه، ليبدؤوا من جديد بحماس وثقة!

هذه الصفات من شأنها أن تدفع الإنسان للتطوير والتقدم؛ لأنها تجمع بين الشجاعتين معًا، فشجاعة العقل تلزمها شجاعة القلب؛ لأن القلب مغامر، وعاطفي ومتهور أحيانًا وهذا ما ينقص العقل الذي يحسب كل شيء بدقة!

ومن شجاعة العقل تتفرع شجاعة أدبية، وعلمية وأخلاقية، وحتى توعوية ودينية، وسياسية... إلخ. لو انتصر كل فرد بعقله لنفسه لبنى جزءًا غير بسيط في هذا الكون!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة فلسطينية من قطاع غزة، تحمل شهادة البكالوريوس في علوم المكتبات والمعلومات، وعدة شهادات معتمدة في اللغات والإعلام والتكنولوجيا. عملت مع عدة قنوات فضائية: الأقصى، القدس، الأونروا، الكتاب. وتعمل حالياً في مقابلة وتحرير المخطوطات، كتابة القصص والسيناريو، و التدريب على فنون الكتابة الإبداعية. كاتبة بشكل دائم لمجلة الشباب - قُطاع غزة، وموقع بصائر الإلكتروني. وعضو هيئة تحرير المجلة الرسمية لوزارة الثقافة بغزة - مجلة مدارات، وعضو المجلس الشوري الشبابي في الوزارة. صدر لها كتابان أدبيان: (وطن تدفأ بالقصيد - شعر) و (في ثنية ضفيرة - حكائيات ورسائل).

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …