قاعدة في المحبَّة

الرئيسية » كتاب ومؤلف » قاعدة في المحبَّة

ثبت في الحديث الصَّحيح أنَّ ((أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عزَّ وجل)). وأنَّ ((من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان)).

قال القاضي عياض: "المحبَّة ميل النفس إلى الشيء لكمال فيه، والعبد إذا علم أنَّ الكمال الحقيقي ليس إلاّ لله وأنَّ كل ما يراه كمالاً في نفسه أو غيره، فهو من الله وإلى الله وبالله لم يكن حبّه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، فلذا فسّرت المحبَّة بإرادة الطاعة واستلزمت اتّباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم".
وقال ابن رجب الحنبلي: "ومن تمام محبة الله ما يحبّه وكراهة ما يكرهه، فمن أحبّ شيئا مما كرهه الله ، أو كره شيئا مما يحبه الله ، لم يكمل توحيده و صدقه في قوله لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه ممَّا أحبه الله، وما أحبه ممَّا يكرهه الله".

ومن الكتب والرّسائل المهمّة التي قعّدت لمفهوم المحبّة ومعانيها وأنواعها، وفصّلت في بيان المحمود والمذموم منها، كتاب "قاعدة في المحبة" للإمام ابن تيمية، رحمه الله، فإلى التفاصيل:

مع الكتاب:

ومن الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرّسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب العقود الدرية في مناقب ابن تيمية: "وقاعدة كبيرة في محبَّة الله للعبد ومحبة العبد لله، وهناك قاعدة أخرى هي قاعدة في وجود تقديم محبَّة الله تعالى ورسوله على النفس والمال والأهل".
وقد اشتملت هذه الرّسالة المهمّة على قواعد تفصيلية في المحبَّة، ومعاني الحبّ والبغض، وبيان المحمود من ذلك والمذموم. وأنَّ محبَّة الله توجب المجاهدة في سبيله، وموادة عدو الله تنافي المحبَّة.

المحبَّة التي أمر الله بها هي عبادته وحده:

في هذه الرّسالة يؤكّد ابن تيمية أنَّ أصل المحبَّة المحمودة التي أمر الله بها وخلق خلقه لأجلها هي ما في عبادته وحده لا شريك له، إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل.. والمحبة لما كانت جنساً لأنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر منها في حق الله ما يختص به ويليق به مثل العبادة والإنابة ونحوهما، فإنَّ العبادة لا تصلح إلا لله وحده وكذلك الإنابة.
ويقول: "بعد بيان أنَّ المحبَّة والإرادة أصل كل حركة في العالم، فإنَّه لابدَّ أن يُعلم أن المحبَّة تنقسم إلى قسمين: محبّة محمودة ومحبة مذمومة". ويقرّر الشيخ بعد ذلك قاعدة أنَّ "أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها هي عبادته وحده لا شريك له، من أي شيء تنبع المحبة؟ وأين توجد المحبة في عبادة الله وحده لا شريك له؟ فكلمة العبودية تنطوي على المحبة ولا شك".
ويرى المؤلف أنَّ أعظم أقسام المحبة المذمومة هي المحبَّة الشركية التي يُشرك فيها العبد مع الله عز وجل، فعبادة الله هي أصل السعادة، وعبادة غير الله هي أصل الشقاء، لأنَّ عبادة الله تنتج محبة الله التي تشيع السعادة في النفس، وعبادة غير الله تنتج حب غير الله الذي يؤدي إلى الشقاء وتعاسة النفس.

الدين الحق هو طاعة الله وعبادته:

وتحت هذا العنوان يقرّر شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ "الدين الحق هو طاعة الله وعبادته .. وأنَّ الدين هو الطاعة المعتادة التي صارت خلقاً، وبذلك يكون المطاع محبوباً مراداً، إذ أصل ذلك المحبَّة والإرادة".
ويقول: "وأمَّا العبادة فلّله وحده ليس فيها واسطة فلا يعبد العبد إلاّ الله وحده كما قد بينا ذلك في مواضع وبينا أن كل عمل لا يكون غايته إرادة الله وعبادته فهو عمل فاسد غير صالح باطل غير حق أي لا ينفع صاحبه".

الحبّ أصل كلّ عمل والتصديق بالمحبَّة هو أصل الإيمان:

يقول الإمام ابن تيمية : "وإذا كان الحبّ أصلَ كلّ عمل من حقّ وباطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حبّ الله ورسوله، كما أنَّ أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، فالتصديق بالمحبّة هو أصل الإيمان، وهو قول وعمل".

كل محبَّة وبغضة يتبعها لذة وألم..

يوضح ابن تيمية أنَّ المحبة هي العلة الفاعلة لإدراك الملائم المحبوب واللذة والسرور هي الغاية. ويقول: "ومن المعلوم أنَّ كلَّ محبَّة وبغضة، فإنَّه يتبعها لذة وألم، ففي نيل المحبوب لذة وفراقه يكون فيه ألم، وفي نيل المكروه ألم، وفي العافية منه تكون فيه لذة، فاللذة تكون بعد إدراك المشتهى والمحبَّة تدعو إلى إدراكه".

شرع الله من اللذات ما فيه صلاح حال الإنسان وجعل اللذة التامَّة في الآخرة:

يقول ابن تيمية: "والله سبحانه قد شرع من هذه اللذات ما فيه صلاح حال الإنسان في الدنيا وجعل اللذة التامَّة بذلك في الدار الآخرة، كما أخبر الله بذلك على ألسن رسله بأنها هي دار القرار وإليها تنتهي حركة العباد".
ويقرّر أنَّه إذا كان أصل الإيمان العملي هو حبّ الله تعالى ورسوله، وحبّ الله أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإنَّ العبادة أصلها أكمل أنواع المحبَّة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام".

محبَّة الله توجب المجاهدة في سبيله، وموادة عدو الله تنافي المحبَّة:

وتحت هذا العنوان، يؤكّد الإمام ابن تيمية أنَّ محبَّة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعاً، فإنَّ منْ أحبَّ الله وأحبّه الله أحبّ ما يحبّه الله، وأبغض ما يبغضه الله ووالى من يواليه الله وعادى من يعاديه الله لا تكون محبَّة قط إلاّ وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها، فإنَّ المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته، ومتى كان مع المحبة نبذ ما يبغضه المحبوب فإنَّها تكون تامَّة.
إلى جانب ذلك، يقرّر الشيخ أنَّ موادّة الأعداء تنافي المحبّة، مستشهداً بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}. ويقول مفسّراً للآية الكريمة: "إنَّ المؤمن الذي لا بدَّ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممَّا سواهما، كما في الحديث المتفق عليه: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))، لا تجده مُوادّاً لمن حادَّ الله ورسوله، فإنَّ هذا جمع بين الضدين لا يجتمعان ومحبوب الله ومحبوب معاديه لا يجتمعان".

مع المؤلف:

هو تقي الدين أبو العبَّاس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحرَّاني.
ولد بمدينة حرَّان الواقعة بالجزيرة الفراتية، في يوم الإثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ.
ولمَّا بلغ من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هرباً من وجه الغزاة التتار.
وَهَبَ نفسه للعلم والجهاد في سبيل الله، فلم يتزوج، ولم يهتم بأمر الدنيا قط، وبدأ بطلب العلم أولاً على أبيه وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير، وعرف بالذكاء وقوَّة الحفظ والنجابة منذ صغره.
ثمَّ توسّع في دراسة العلوم وتبحر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد وشروط الاجتهاد منذ شبابه، فلم يلبث أن صار إماماً يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره.
سجن ابن تيمية عدَّة مرَّات (في القاهرة والإسكندرية وفي قلعة دمشق) كان آخرها في 9جماد الآخر 728هـ، في القلعة مع ابن القيم وأخيه زين الدين عبد الله وأخذت فيها كتبه وأقلامه، وكتب الرسائل المشهورة بالرسائل الفحمية، وتوفي بعدها وكانت مجموع مدة سجنه ست سنوات وشهرين واثنا عشر يوم، وذلك بسبب عدة تهم وافتراءات .
توفي شيخ الإسلام - رحمه الله- وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق سنة 728هـ وعمره 67 سنة.
قال عنه تلميذه ابن القيم حين ترجم له: "شيخ الإسلام والمسلمين، القائم ببيان الحق، ونصرة الدين، الداعي إلى الله ورسوله، المجاهد في سبيله، الذي أضحك الله به من الدين ما كان عابساً، وأحيا من السنة ما كان دارساً...".
وقال الذهبي: "ما رأيت أشد استحضارًا للمتون وعَزْوِها منه، وكانت السُّنَّة بين عينيه وعلى طرف لسانه".
ترك آثاراً علمية جليلة منها من طُبع، ومنها ما يزال مخطوطاً أو في عداد المفقود، يصفها الشيخ أبو الحسن الندوي بقوله: "ولذلك لا نجد أيّ كتاب من كتبه يخلو من حقائق علمية جديدة، وبحوث ناقدة، ومباحث أصولية جديدة، بل إنَّ مؤلفاته تشق طريقًا جديدًا لفهم الكتاب، وتفتح بابًا جديدًا في إدراك مقاصد الشريعة".
ومن الإنتاج العلمي المطبوع لشيخ الإسلام ابن تيمية، نذكر منه: الاستقامة، واقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ودرء تعارض العقل والنقل، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، مجموعة الفتاوى الكبرى، دقائق التفسير، رسالة في أصول الدين، وغيرها من الكتب والمؤلفات والرسائل.

 

بطاقة الكتاب:

العنوان: قاعدة في المحبَّة.
المؤلف: شيخ الإٍسلام ابن تيمية الحرّاني.
الناشر والسنة: دار ابن حزم بالتعاون مع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان.
عدد الصفحات: 310 صفحات.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

تراث القدس.. سلوة النفس

يعد هذا الكتاب القيّم تراثًا مقدسيًّا فلسطينيًّا مبسّطًا - إلى حد ما - ومجمّعًا بطريقة …