قراءة إسلامية في مفهوم “المواطن العالمي”

الرئيسية » بصائر الفكر » قراءة إسلامية في مفهوم “المواطن العالمي”
masjid13

في منتصف القرن الثامن عشر، خرج الفيلسوف والأديب الإيرلندي، أوليفر جولد سميث، بمجموعة من المقالات التي انتظمت بعد ذلك في كتاب عُرِف بـ"المواطن العالمي" أو الـ"The citizen of the world".

طرح هذا الكتاب رؤية فلسفية حول العلاقات الإنسانية تنطلق من مشترك مهم بين جميع البشر، وهو الأصل الإنساني، وبالتالي؛ فإن الأصل في البشر يجب أن يكون قبول الآخر والتعايش والتعاون معه.

وبينما العالم منبهرًا بحالة التسامح والقبول بالآخر التي وصلت إلى حدها الأقصى من جانب جولد سميث في مقالاته، وتصويرها على أنها الوجه الحقيقي البشوش لـ"الحضارة الغربية" التي لا تزال إلى الآن تقتل في الشعوب القديمة التي استعمرتها؛ فإنه لا يوجد انتباه لحقيقة مهمة، وهي أن الإسلام بأدبياته – أي نصوصه المقدسة قطعية الثبوت في القرآن الكريم وفي الممارسة النبوية – قد سبق الجميع بتقديم مثل هذه الرؤية.

وهو نفس المشكلة الحاصلة مع "وثيقة المدينة" التي سبق بها النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وثيقة "الماجنا كارتا" الإنجليزية للحقوق والمواطنة بأكثر من خمسة قرون.

فالقرآن الكريم وخطبة الوداع، قدما في الكثير من الآيات والأحاديث والنصوص النبوية الشريفة الصحيحة، الكثير في مجال حقوق الإنسان وواحدية الأصل الإنساني، وضرورة التعايش، مع الحفاظ في ذات الوقت على قيمة الخصوصية الثقافية والاجتماعية. فأبسط منطق لعقل الأمور؛ تشير إلى أنه بمجرد اعتراف القرآن الكريم بتنوع الجنس البشري، كما في سُورتَيْ "هود" و"الحجرات" على سبيل المثال؛ فإن هذا يعني بشكل تلقائي، ضمان واحترام الخصوصية الفكرية والثقافية والحضارية للمجتمعات الإنسانية؛ لأن كلاهما؛ الخَلق المتنوع هذا، والقرآن الكريم؛ من مصدر واحد، وهو الله عز وجل، الخالق الحكيم الذي أحكم كل شيء صنعه.

ويعود جزء كبير من عدم التفات الكثير من المستشرقين والمفكرين حول العالم، حتى العدول غير المنحازين منهم ضد الإسلام والمسلمين، إلى كل هذه الجماليات وكل هذا السبق في الإسلام لأمور لم يزال العالم يتحسس طريقه إليها حتى الآن؛ هو سوء الممارسة من جانب البعض.

يعود جزء كبير من عدم التفات الكثير من المستشرقين والمفكرين حول العالم إلى كل الجماليات في الإسلام لأمور لم يزال العالم يتحسس طريقه إليها حتى الآن؛ بسبب سوء الممارسة من جانب البعض

ولسنا هنا في معرض تناول كل أوجه الإشكاليات المتعلقة بممارسة المسلمين لدينهم بشكل خاطئ، ولكننا سوف نقف أمام بعض المفاهيم والأساليب الخاطئة المُطبَّقة في الدعوة، والتي أدت إلى تعويقها في الكثير من المجتمعات، مع تصادم هذه المفاهيم والأساليب مع الخصوصية الثقافية والشخصية القومية لهذه المجتمعات، ولاسيما في الأمم الكبرى الناهضة التي تملك كبرياء التاريخ والحضارة.

ونقف هنا عند مشكلة مفتاحية، وهي الباعث الذي يدفع بعض دعاتنا إلى تنميط الصورة الذهنية للمسلم حتى على مستوى الشكل بحيث تكون كما يراها أصحاب الاتجاه السلفي على وجه الخصوص، بما في ذلك الملبس، بينما باستثناء الطلب النبوي بإعفاء اللحية وحف الشوارب؛ لا يوجد أي نص شرعي يقول بملبس معين أو هيئة معينة يجب أن تكون لكل المسلمين في كل أنحاء العالم، وعبر التاريخ.

وللأسف فإن هذا يأتي الحكم يأتي وفق الهوى، وليس وفق أحكام شرعية صحيحة، والتأثر في ذلك كبير بآراء وسمت علماء وأهل شبه الجزيرة العربية؛ حيث الحرمَيْن الشريفَيْن مع التأثيرات الكبرى التي لعبتها مسألة تحول المذهب "الوهابي" إلى دولة ذات نظام سياسي ينفق المليارات وفق تقارير دولية موثوقة، لنشر هذا المذهب بكل ما يحتويه من مفردات لتصوره حول الإسلام والمسلم، مظهرًا ومخبرًا، بينما يحتوي – كأي اجتهاد بشري في واقع الأمر – على أخطاء عديدة كان يتوجب مراجعتها؛ لا نشرها.

وبالمثل؛ نجد أن فلانًا قد عاش في السعودية؛ فيقول بما يلبسونه سلفيو السعودية، وفلانًا عاش في باكستان؛ فيقول بأنه لا هيئة للمسلم سوى هيئة أهل بلاد الباكستان والأفغان، بينما كل هذا هراء وخطأ؛ حيث لا يوجد لا في القرآن الكريم، ولا في السُّنَّة النبوية المطهرة ما يفيد بذلك.

والأمور الخاصة باللحية وسُترة الإنسان، يمكن تنفيذها بصور عديدة، ولا تثريب على المسلم فيها، ولا يشترط في ذلكم هيئة معينة.

الأمور الخاصة باللحية وسُترة الإنسان، يمكن تنفيذها بصور عديدة، ولا تثريب على المسلم فيها، ولا يشترط في ذلكم هيئة معينة

ولدينا في ممارسات الصحابة الكبار رضوان الله تعالى عليهم، ما يفيد ذلك. سُراقة بن مالك (رضي اللهُ عنه)، ارتدى ثياب الفرس لما حكم بلاد فارس، وأقره على ذلك عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنه) نفسه.

بل إن هناك في كتب السُّنَّة، بما في ذلك "البُخاري" و"مسلم"، أن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، كان يلبس جبَّة شامية، وكانت أكمامها ضيقة خلافًا لما كان هو متعارف عليه في شبه الجزيرة العربية، والشام في ذلك الحين كان تابعًا للدولة الرومانية التي كانت تحارب الدولة الإسلامية الناشئة في ذلك الحين، والروم كانوا أهل كفر.

وهو بكل تأكيد دليل شرعي – الدليل الشرعي معروف أنه القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية – بأنه لا منافاة بين التقاليد في اللباس والعادات، وبين الدين، طالما أنه لا يوجد تصادم، وفي ذلك بيان للتوسعة على المسلم، ونهي عن التضييق في هذا الأمر والمبالغة فيه.

وفي حديث أخرجه "مسلم"، أن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" قال: "هلك المتنطعون" (قالها ثلاثًا)، وقال العلماء إن "التنطُّع" هو التكلف والتشدد فيما لا ينبغي، وفي غير موضعه الصحيح، مثل الغلو في العبادة والمعاملة، بحيث يؤدي ذلك إلى المشقة الزائدة.

والأمر في حالتنا هذه لا تتعلق بمشقة زائدة من المسلم على نفسه، وإنما بأثر أعظم وأخطر، وهو إفساد جهود الدعوة وعدم فاعليتها.

فما يجري أولاً يخالف صحيح الفطرة في التنوع بين البشر، وبالتالي؛ مستحيل إلزام مئات الملايين من أبناء الشعوب المختلفة التي من بينها أممٌ لها خصوصيتها بالتزام زي ومظهر واحد.

وبالتالي؛ فهو يخالف صحيح الدين، لأن الإسلام نزل موائمًا لصحيح العمران والفطرة، وكلاهما من خلق الله عز وجل؛ الذي هو وضع هذا الدين وارتضاه لنا.

يستحيل إلزام مئات الملايين من أبناء الشعوب المختلفة التي من بينها أممٌ لها خصوصيتها بالتزام زي ومظهر واحد

الأمر الآخر، هو أن خصوم الدين والمشروع الإسلامي في الغرب؛ استغلوا هذه النقطة، وصكوا الملايين من المواد الإعلامية التي شوهت هذه الصورة النمطية وعملت على "شيطنتها"، استنادًا للأسف إلى ممارسات مسلمين؛ جماعات وأفراد، تستكمل جانبًا آخر، وهو اصطناع "الشيطان الأخضر" في إشارة إلى "الخطر الإسلامي" – هنتنجتون وفوكوياما قالوها صراحة – وبالتالي؛ تم تشويه الدين ذاته، والمشروع الدعوي والأخلاقي الذي يحمله بالكامل، وعلى ذلك؛ فلو ظل الدعاة ألف عام يدعون الناس في كثير من بقاع العالم؛ ما استجابوا.

فعلى سبيل المثال؛ كيف نتصور ياباني – وهم من أكثر شعوب الأرض اعتزازًا بتراثهم وهويتهم – أنه عندما يسلم؛ يجب أن يتشبه بشعب آخر؟! – فكما قلنا الصورة المتداولة حاليًا ليست للمسلم، وإنما هي لمسلمي شعوب مثل السعودية وباكستان – سيرفض طبعًا.

وهو أمر متحقق بالفعل حتى بين المسلمين الجدد؛ حيث هناك خطأ كبير في تقييم معدلات انتشار الإسلام في العالم الغربي على وجه الخصوص، فالأرقام المتداولة في هذا المقام، قد تكون صحيحة إحصائيًّا، ولكنها غير دقيقة في دلالتها الموضوعية؛ حيث الإحصاء السياسي والاجتماعي علم مختلف تمامًا عن الإحصاء الرياضي، ويضع في اعتباره العوامل البيئة المجتمعية والسياسية في تقييم الأرقام التي يتم التوصل إليها.

فالغرب معروف بانفتاحه، وبأن مبدأ الحرية هناك يدفعهم إلى تجربة كل شيء، فكثير من المسلمين من أبناء هذه البلدان، يسلِم كمحطة من حياته، أو كتجربة لا أكثر، قبل أن ينتقل إلى "تجربة دينية" أو "روحية" أخرى من فترة لأخرى.

ولذلك هناك نسبة كبيرة "تجرِّب" الدخول في الإسلام ضمن مساعيها للحصول على السلام الروحي والنفسي كردَّة فعل زاء الحضارة المادية المتوحشة هناك، ولما لا يجدونه لن أقول طبعًا في الإسلام، ولكن في "النسخة" التي ينقلها البعض لهم عن الإسلام؛ فإنهم يتحولون عنه.

ودليل صحة ذلك، أنه، وفق دراسات موثَّقة، فإن نسبة كبيرة من المسلمين الجدد في الغرب إذا ما تحولوا عن الإسلام؛ فإنهم يعتنقون الديانات الشرقية ذات الطابع الروحي، مثل الهندوسية والبوذية، وغير ذلك من الفلسفات الوضعية.

وكذلك بسبب طبيعة المجتمعات الغربية؛ فإن البعض "يسلِم" على سبيل "الموضة". هذا مؤسف، ولكنه حقيقي، ولكننا لا نجري دراسات بالكفاية اللازمة لمعرفة الاتجاه العكسي للأمر؛ أي معدلات خروج المسلمين الجدد من الإسلام، ولن أقول "ردَّة" لأنهم من الأصل لم يدخلوا في الدين بالمعنى الصحيح الشرعي.

وهو جزء من مشكلة كبرى تواجه الصورة الذهنية للإسلام والمسلمين هناك، وهي أنه بسبب أن اعتناق الإسلام تم من دون علم أو تأهيل كافٍ؛ فإن كثيرًا من المسلمين الجدد في أوروبا والأمريكتَيْن من سكان البلاد الأصليين؛ انحرفوا فكريًّا وانضموا إلى الجماعات التكفيرية المسلحة.

ولقد أصدر الأزهر الشريف دراسات موثقة بالأرقام في ذلك، مشفوعًا بتقارير أجهزة مخابرات ووكالات إعلامية كبرى لها موثوقيتها في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى.

ولذلك لا يمكن الاستناد باطمئنان إلى ما يُقال أن جهود الدعوة بخير لأن المسلمين يزيدون. فهي زيادة كزبد البحر للأسف، وتضر أكثر مما تنفع.

المطلوب هو أن نعلم الإسلام للناس كما وضعه الله تعالى لنا؛ كدين عالمي لا يتقيد لا بحدود ولا بصورة ولا بهيئة شعب بعينه.

المطلوب هو أن نعلم الإسلام للناس كما وضعه الله تعالى لنا؛ كدين عالمي لا يتقيد لا بحدود ولا بصورة ولا بهيئة شعب بعينه

نسمع الآن هزلاً عن "الإسلام المصري"، و"الإسلام التركي"، و"الإسلام السعودي"، وهذا كله هراء، وأثره خطر على جهود الدعوة، بل وعلى صورة الإسلام نفسه كدين عالمي الطابع، أنزله الله تعالى لكي يكون صالحًا لكل زمان ومكان.

الدعوة الإسلامية يجب أن تعمل على ألا يأخذ الإسلام صفة أنه دين "العرب" فقط أو دين الشعوب المشرقية، فقط. فليكن المسلم عالمًا في "ناسا"، أو رائد فضاء، أو عالم بيولوجي؛ يرتدي أحدث الثياب، ويختلف في هيئته عن المسلم الهندي، والمسلم المصري، والمسلم الياباني.

هذا هو الإسلام كما أراده الله تعالى؛ دين صالح للجميع، في كل زمان، وفي كل مكان!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …