إن الجواب الذي ينبغي أن ينتشر الآن عند السؤال "ما هو مراد الله مني شخصيًا؟" وما شاكله من تساؤلات حول الرسالة المخصوصة والمسار المعيّن لكل فرد في هذا الوجود، هو: "اسأل الله!" ذلك أنه لا ينقص أحدًا مزيدٌ فوق الخِضَمّ المتاح بالفعل من بصائر ومنهجيات وإرشادات، وإنما هو نور التوفيق الذي يستجلب من عند الله رأسًا بالتضرع، ولا يهبط بكثرة المطالعة وطول التمني فحسب.
فالجواب الحقيقي لكل سائل كامن دائمًا في جَثوٍ على الركبتين ورفع لليدين. أي إجابات أخرى تحصّل من طرق "بديلة" هي إجابات مدلّسة تقوم على ظنّ الحق أو توّهمه لا تحققه، فالحق لا يتحقق إلا بمدى استعانتك بالحق وتحرّيك العلمَ بأمره . ذلك النوع من الإجابات قد يصيب قَدَرًا ويخطئ قَدْرًا، لأنه لا بديل عن الطريق الرئيس ليحفظ لك رأس مالك – أي عمرك – ويسدد بوصلة سيرك، مهما تفرعت بك الاختيارات بعد ذلك.
وحينما نتكلم عن قوم مؤمنين بالله ومدركين لحقيقة الوجود وغاياته، فنحن نأخذ المراد عن الخالق الذي أوجدنا بداية، فحق الخالقية علينا يقتضي من المخلوق أن يقوم بمراد خالقه الذي لأجله خلقه. فالدين ليس "سلّة" أفعال حسنة تختار منه كيف شئت متى شئت، بل هو أولويات يفضي بعضها إلى بعض وصولًا لمراد الله منك وليس مرادك منه سبحانه. ومن هنا كان تحذيره صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به" (كنز العمال، الأربعون النووية)، لكن الحاصل أننا نلوي ما جاء به ليكون تبعًا لهوانا، في إطار ظاهري من "استحضار النية"، فيما لا نرجوه حقيقة عند الله. وشتان بين طالب من الله وطالبِ الله، ومتخذ دنياه معبرا يعمره عُمران راجٍ لما بعده، ومن يتخذها مستقرًا يكدس له تكديس من هو خالد فيه!
شتان بين طالب من الله وطالبِ الله، ومتخذ دنياه معبرًا يعمره عُمران راجٍ لما بعده، ومن يتخذها مستقرًا يكدس له تكديس من هو خالد فيه
هذه ليست دعوة لأخذ الدين "دروشةً" أو ضربًا على عماية، وإنما تنبيه أولًا وسط لُجَج العلم وغماره إلى أن الدين ليس رياضيات بحتة، وسنن الله تعالى في التوفيق والتدبير ليست خطوات حسابية. وحريّ بمَن صَدَق الضراعة لله تعالى واتخذ الدعاء مصباحه الهادي في كل شؤونه، أن يطلب "العلم" بأمر الله ليلزمه، وسيدفعه الله تعالى لذلك لا ريب، لكنه يكون أرجى سدادًا وأقرب إصابة ممن يتوكأ على نفسه (ومهاراتها!).
وتنبيه ثانيًا إلى أن الدعاء هو العبادة، فمن لا حظ له من الدعاء مستكبر عن عبادة الله مهما ادّعى أنه متعبد لله بالبحث عن مراده تعالى (عند غيره!)، ومهما حصّل من علم باسم الله (بعيدٌ عن الله!). فالذي تأخذه العزة بالعلم والاستغناء بالمعرفة هو - ربما لاشعوريًا - مستعلٍ عن حقيقة العبودية التي هي مطلق الافتقار لله تعالى، ومهما يكن ما أوتيت، فهو الذي آتاك، ولولا ذلك ما بلغت حقًا ولو كددتَ دهرًا. قد تبلغ أشياء أخرى غير الحق، لكنها من قبيل ظاهر العلم وزخرف الظن، فكل وما اختار.
وكل علم لا يزيدك استشعارًا لمدى افتقارك إلى فضل الله وتوفيقه وحفظه من محاذير الطلب، هو علم ينبغي وضعه هو ومقاصده في قفص الاتهام. وكل إقرار لساني بالافتقار لله والمجاهرة بالعبارة المستهلكة "كله فضل الله"، دون حظ حقيقي من طول دعاء ومناجاة وتضرع وذكر خلوات، يظل ادّعاءً أجوف ما له من قرار.
لا بد من الاستعانة بالله على تحرّي مراضيه، ولابد مع ذلك من طلب العلم بأمر الله كما بيّنه الله . ولا يكون ذلك إلا من الله: فإنك به تبدأ وإليه تنتهي، وأي سبيل آخر هو سعي أبتر لابد سيفضي إلى مزيد بعد، ولو تزيّن ببعض القرب حتى حين.كل علم لا يزيدك استشعارًا لمدى افتقارك إلى فضل الله وتوفيقه وحفظه من محاذير الطلب، هو علم ينبغي وضعه هو ومقاصده في قفص الاتهام