كثر الحديث عن تغيير الخطاب الديني، وتجديد الخطاب الديني دون النظر لمعنى تلك الكلمات وخطورتها على واقع الأمة وأصل الاسلام.
فقد استخدمها الكثيرون من مدعي الغيرة على الإسلام لتفريغ الدين من الهدف المقصود منه بشمول مظاهر الحياة جميعها، لحصره في دائرة العبادات، داخل المساجد كما حدث من قبل في أروقة الكنائس.
لماذا الخطاب الدعوي
وقد اخترت كلمة "الدعوي" وليس "الديني" ـ فالتغير إنما يكون في كيفية توجيه الخطاب واختيار الملائم منه للمرحلة وظروف المخاطب، فللدين ثوابت لا تتتغير، وإنما يكون التغير في طريقة تقديمه.
ولكي أقرب المعنى الذي أقصده بكلمة التجديد أذكر مثالاً للتقريب، هب أن طبيباً في تخصص معين، وأتاه مجموعة من المرضى في أعمار مختلفة، وظروف صحية مختلفة، وظروف اجتماعية مختلفة كذلك، لكنهم يشكون من نفس المرض ونفس العرض، فهل يعطيهم الطبيب نفس الدواء؟
إنه إن فعل ذلك ولم يراع فروق السن، ولم يراع مريضاً يشكو من مرض آخر، ولم يراع مريضاً لا يقدر على شراء هذا الدواء، فإن هذا الطبيب قد يتسبب في موت عدد من مرضاه بدون أن يعي ذلك، فقد يتعارض الدواء مع المرض الآخر، وقد لا ينفع هذا الدواء لهذا السن، وإن لم يراع تلك الفروق كلها رغم أن المرض واحد والعرض واحد فقد تسبب في الأذى من حيث يريد أن يصلح.
وفي هذا يقول ابن القيم: "من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب واحد من كتب الطب".
وهنا تظهر أهمية دراسة فقه الواقع الذي مر بنا من قبل، و#التجديد والتجدد ليس معناهما إدخال على الدين ما ليس فيه، فالإسلام دين توقيفي يقول الله تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ [المائدة:3].
فالمستهدف بالتجديد ليس خطاب رب العالمين، وإنما خطاب الموقعين عن رب العالمين؛ المستهدف ليس المضمون الذي جاءنا من الله، وإنما الوعاء الذي نقدم فيه هذا المضمون للناس.
المستهدف بالتجديد ليس خطاب رب العالمين، وإنما خطاب الموقعين عن رب العالمين؛ والمستهدف ليس المضمون الذي جاءنا من الله، وإنما الوعاء الذي نقدم فيه هذا المضمون للناس
والخطاب القرآني يوجهنا لكيفية الخطاب مع المدعوين فيقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]. ولذلك فواجب على المصلحين والدعاة أن يفطنوا لما يراد لهم، فلا يكونوا أبواقاً لترديد مصطلحات تضر بدعوتهم أكثر مما تنفع، وواجب عليهم أن يذودوا عن دينهم بالسلوك أولاً وبالدعوة ثانياً.
مشكلات الخطاب الدعوي
استطاعت الحركة الاسلامية أن تحافظ على الفكرة الإسلامية من الذوبان في الحالة الاستعمارية التي عانت منها الأمة في القرن الماضي، والذي ترك فيها مصيبتين لا تقل إحداهما خطورة عن الأخرى:
الأولى: ما أسماه مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، وتلك الروح التي انتشرت في أركان الأمة جعلت المسلم مفرغاً من هويته، وثقافته الدينية التي تأبى أن يكون مستعبداً لذلك الاستعباد.
والثانية: هي حالة الانبهار بالحضارة الغربية الوافدة مع جيوش المستعمرين، مما أثار جدلاً بين مفكري الأمة أنفسهم في مصدر النهوض الحضاري كي ننهض من كبوتنا، ونجد أن منهم من نادى بترك كل ما يمت للعروبة والإسلام إذا أردنا أن نخرج من حالة الموات التي تحياها الأمة، ولا ننكر أن الحركة الإسلامية عانت من تلك الروح الانهزامية والاستسلامية المستشرية بين من يسمونهم مثقفي الأمة، والتي توقفت تبعاً لها حركة الاجتهاد، وانشغل الاسلاميون بمعارك أخذوا إليها رغما، فانشغلوا كذلك بتجديد فكرهم وتجدد ذاتهم وتطوير خطابهم الدعوي وانشغلت الحركة بتلك المعارك عن المشكلات الحقيقية للجمهور والبحث عن حلول لها وحين توقفت حركة المراجعات كانت النتائج لهذه الحركة المباركة أقل بكثير مما كان مرجواً لها.
ومن أهم مشكلات الخطاب الدعوي:
- انقطاع الخطاب الدعوي عن احتياجات المجتمع وبعده عن التعرض لمشكلاته ومتطلباته، مما تسبب في إعراض عامة الناس عن تقبل الفكر الحركي المعاصر، والوقوف في حالة من الحياد بينه وبين الأنظمة، لتقف الحركة الاسلامية مجردة وحيدة في حالة صراع وجودي مع الأنظمة، ودعوي مع الشعوب في نفس الوقت.
ـ النقل من كتب أهل العلم دون مراعاة حال المخاطبين، فكثير من الخطباء والوعاظ والدعاة في الدروس والخطب ينقلون من كتب أهل العلم دون أن يراعوا حال المخاطبين، فيقع التنافر الشديد بين الطرح وبين عقلية المتلقي.
ـ عدم الاهتمام بالخطاب القرآني في مخاطبة الناس، فكثير من الدعاة يبنون وعظهم وإرشادهم على طريقة واحدة كالترهيب والترغيب، ويغفلون عن طريقة القرآن التي تتسم بالشمولية والعمق. ولهذا ينبغي على الداعية أن يسترشد بطريقة القرآن، في مخاطبته للفطرة، وفي ربط الإنسان بالكون وما فيه من آيات، وفي طريقته في الإقناع، وفي جمعه بين مخاطبة العقل ومخاطبة المشاعر.
كثير من الدعاة يبنون وعظهم وإرشادهم على طريقة واحدة كالترهيب والترغيب، ويغفلون عن طريقة القرآن التي تتسم بالشمولية والعمق
ـ الانتماء الحزبي والتنظيمي أحياناً يكون أقرب للداعية إلى ذهنه وقلبه من دعوته ذاتها، وهذا يكون مدعاة لنفور المدعوين من دعوته.
ـ أن لا تكون لدى #الداعية رؤية واضحة تدفعه للسير بلا منهجية واضحة، وداعية بلا منهج كربان سفينة بغير بوصلة توصله لوجهته.
ـ عدم معرفة الداعية أو المصلح بوسائل التواصل الحديثة واستخدامها بشكل أمثل للوصول لفئة الشباب وفئة المتخصصين.
ـ عدم الإلمام ببعض علوم العصر والتي أصبحت هي لغته المعتبرة، فنجد بعضهم يتحدث وكأنه يوجه خطابه لكفار قريش أو مجموعة من العصر الجاهلي.
وسائل تجديد الخطاب الدعوي
إننا إذا أردنا أن نبحث عن حلول للخروج من أزمة الخطاب الدعوي والارتقاء به لمستوى عالمية الدين فأمامنا طريقان:
أولاً: تجديد الفقه الإسلامي بما يتناسب وروح العصر
وفي السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها" (رواه أبو داود والحاكم).
وتجديد الفقه ليس معناه الإضافة إليه ولا الحذف منه، بل معناه إزالة ما علق به من شوائب العادات والأعراف الدخيلة عليه، والأصالة عكس الزيف وليست عكس التجديد.
والاجتهاد هو باب التجديد الفقهي الذي فتحه النبي صلى الله عليه وسلم ويجب أن يستمر مع المسلمين حتي تستقيم شئونهم، وحتى يستطيعوا مواكبة حركة التطور، بل أن يسبقوها إن أرادوا، والاجتهاد يجب أن يتطرق، بل ويبدأ بالمسائل المستجدة على الأمة.
ثانيا: دراسة فقه الأولويات في ضوء مقاصد الشريعة
بداية يجب أن نعلم أن الله عز وجل شرع الدين ليضمن به سعادة الإنسان وصلاحه وهدايته ونجاته في الدنيا والآخرة، وأنه سبحانه قد شرع الشرائع لحكم ومقاصد كثيرة، قد ينجلي لنا بعضها وقد يخفى البعض حتى يظهره الله لأحد من عباده، وقد لا يظهره سبحانه لحكمة عنده كذلك، وآيات المقاصد كثيرة علل الله بها بعض أحكامه، فيقول في تعليل رسالة الإسلام بأنها هدى ورحمة وشفاء {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للعالمين} [يونس:57].
ويقول تعليلاً للحكمة من تشريع الصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت:45].
وعلل الحكمة من تشريع الصيام بقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:183]، وهناك آيات كثيرة في هذا المضمار.
وكذلك هناك أحاديث نبوية كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال في حديث الحكمة من الأمر بالصوم والزواج للشباب، فيقول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (متفق عليه).
وتحدث علماء المسلمين عن المقاصد منهم الغزالي حين قال: (ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم).
وحين يربط الداعية دعوته بمقاصد الشريعة ويكون على بصيرة بحال المدعو، فيدعوه بالطريقة والكيفية التي بها يتحقق مقصد الشارع، فإنها تكون أعمق تأثيرا فيه، وأكثر فائدة لغيره.
حين يربط الداعية دعوته بمقاصد الشريعة ويكون على بصيرة بحال المدعو، فيدعوه بالطريقة والكيفية التي بها يتحقق مقصد الشارع، فإنها تكون أعمق تأثيرا فيه، وأكثر فائدة لغيره
وهكذا حين نتحدث عن تجديد الخطاب الدعوي فمعناه جملة ربط الدين بواقع كل إنسان ومعرفة أصل مشكلته؛ حتى تستطيع أن تكسبه كإنسان بغيتك الأولى له الهداية الكاملة والاتباع الصحيح وتحقيق العبودية لله تعالى بالحب ثم الحب ثم الحب.