"أحب ما تعمل حتى تعمل ما تحب" تعتبر هذه واحدة من أشهر العبارات التي قد تطرق سمعكَ خاصة إذا كنت في مجال عمل لا تحبه.
قائلة هذه العبارة هي الأديبة والمحاضرة والناشطة الأمريكية هيلين كيلر، وتعتبر إحدى رموز الإرادة الإنسانية، حيث إنها كانت فاقدة للسمع والبصر واستطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من الإنجازات الأدبية والإنسانية. ولكن فيما يتعلق بتلك العبارة، فقد تأكد لي مما مررت به من تجارب وقراءاتي لتجارب آخرين، أن تلك العبارة كثيرًا ما تستخدم في غير سياقها الصحيح.
فقد يعمل أحدهم في وظيفة على مدار سنين، ولكنه في واقع الأمر يبغض تلك الوظيفة، وبالتالي لن يبدع فيها. وهنا مربط الفرس، فحب #العمل هو الذي يمنحنا الدافع والقوة على الاستمرار والإبداع. صحيح أنه قد نتمكن أحيانًا من إتقان العمل حتى وإن كرهناه، فالذي يكرر العمل بصورة يومية روتينية صحيحة لابد أن يتقنه، وهذا ما شهدته يحدث مع كثيرين في مختلف مجالات العمل. ولكن هل يكفي الإتقان وحده لينطلق بنا إلـــى #الإبداع؟! قد أثبتت الكثير من التجارب والأبحاث العلمية أن عامل"حب العمل" لابد أن يكون موجودًا لنصل إلى مرحلة الإبداع والابتكار فيما نعمل.
قد يعمل أحدهم في وظيفة على مدار سنين، ولكنه في واقع الأمر يبغض تلك الوظيفة، وبالتالي لن يبدع فيها. لأن حب العمل هو الذي يمنحنا الدافع والقوة على الاستمرار والإبداع
قال "ستيف جوبز" في خطابه لخريجي جامعة "ستانفورد" عام 2005 تعليقا على طرده من شركة "أبل" العالمية لأشهر أنواع الهواتف المحمولة الذكية، وتأكيدًا على ضرورة أن يعمل المرء ما يحب:
"أنا متأكد أن الأمر الوحيد الذي أعانني على الثبات أثناء تلك الفترة هو أننـــي أحببت ما أقوم به، لذا يتوجب عليك أن تجد ما تحب. العمل يملأ جزءاً كبيراً من حياتنا، وما يمنحك الشعور بالرضا حقًّا هو أن تقوم بالشيء الذي ترى أنه عمل رائع، والسبيل الوحيد للقيام بعمل رائع هو أن تحب هذا العمل. فإذا لم تكن قد وجدته بعد فاستمر في البحث، ولا تيأس!".
وإذا أسقطنا نصيحة جوبز على عباقرة التاريخ لوجدنا أنهم على اختلاف أجناسهم وطبائعهم وأصولهم وإبداعاتهم قد اشتركوا جميعاً في أمور من بينها حب ما كانوا يعملون، فكانت النتيجة أن أبدعوا فيه، بل وصاروا عباقرة!
عباس العقاد مثلًا وهو الكاتب والشاعر المصري الكبير والملقب بالعملاق أحب القراءة والكتابة واللغة فأبدع، وهو لم ينل حظًا من التعليم النظامي اللهم إلا الابتدائية.
و"جين أوستن" وهي كاتبة إنجليزية قضت حياتها تكتب وتؤلف الروايات. هذه الكاتبة عاشت في زمن كان على المرأة أن تحرص فيه على إيجاد معيل لها إن لم تكن عائلتها غنية، وذلك من خلال الزواج ، ولكن "جين" لم تُوفَّق في ذلك ولم تتزوج قط. ورغم أن الكتابة قد لا تعد من الوظائف المدرة للربح إلا أنها ظلت تكتب حتى وهي على فراش المرض، وهذا بالضبط ما يفعله حب الإنسان لعمله.
وفي السيرة النبوية الكثير من الأمثلة التي تعزز هذه الفكرة، ببيان ضرورة حب العمل، واختار الأنسب له. فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شجع كل واحد من الصحابة على العمل الذي يحسنه والمهارة التي يتقنها، فكان أن تخرج من مدرسته صلى الله عليه وسلم دفعة من الأفذاذ والعباقرة الذين يفتخر بهم التاريخ.
فترى مثلًا أن أبا هريرة رضي الله عنه هو أكثر من روى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وزيد بن ثابت رضي الله عنه كان كاتبًا للوحي. وكان كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضوان الله عليهم أمراءَ للمؤمنين وقادة للأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وترى صحابة مثل عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضوان الله عليهم قادة للجيش. وبلال بن رباح رضي الله عنه كان هو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير رضي الله عنه كان سفيره.
حتى الصحابيات وأمهات المؤمنين لكل واحدة منهن دور وقصة، فأسماء بنت يزيد الأنصارية هي خطيبة النساء، فكانت تأتي النبي صلى الله عليه وسلم نيابة عن صاحباتها لتسأله في الأمور التي تتعلق بالمرأة المسلمة وشؤونها. والخنساء كانت شاعرة مخضرمة أدركت الجاهلية والإسلام وأسلمت، واشتهرت برثائها لأخويها صخر ومعاوية اللذين قُتلا في الجاهلية. ورفيدة بنت كعب الأسلمية رضي الله عنها وهي أول ممرضة في الإسلام. والشفاء بنت عبدالله العدوية وتلقب بصاحبة النَّملة (اسم مرض يصيب القدم) حيث كانت تقوم بعلاجه بالرقية.
وهكذا كانت مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بكافة المواهب والمهارات، ولم يحدث أن فرض عليه الصلاة والسلام على أحد من الصحابة أن يقوم بما لا يطيقه ولا يصلح له، بل كان يترك كلًّاً لما هو ميسر له، فكان أن أبدعوا جميعًا في نطاق تخصصهم وموهبتهم وصاروا بهذا نجومًا أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم الاقتداء بأيهم لنهتدي!
لم يحدث أن فرض عليه الصلاة والسلام على أحد من الصحابة أن يقوم بما لا يطيقه ولا يصلح له
وختامًا، لابد أن نحرص كمسلمين أن نقوم بالعمل الذي نحب، حتى نتعدى مرحلة الاتقان إلى الإبداع ، فلو كان الإتقان وحده كافيًا، لما خرَّج سيد الخلق دفعة من المبدعين والعظماء.
وقد قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
إذا مـــا طمحتُ إلى غايـــة ... ركبــتُ المنــــى ونســيت الحــــذر
ومن لا يحب صعود الجبـــال ... يعش أبــد الدهــر بيــن الحفـــــر
أُبارك في الناس أهـــــل الطموح ... ومن يستلـــذ ركــوب الخطــر