وصلت رسالة إلى هاتفي عبر واتساب تحمل سؤالًا: "هل صحيح أنكم سمعتم الأذان اليوم من قلب المسجد #الأقصى، ولم يكن فيه أيَ مؤذن، أيّ إنسان؟" سؤال ظاهره لطيف، تضامني، ومخلص، أليس كذلك؟ لكن التأمل في السؤال يكشف عمقَ المأساة في حقيقة وعي السواد الأعظم من الأمة العربية بقضية فلسطين و#القدس.
في أوائل التسعينيات كنت أتعرف إلى #فلسطين كوطن بعيد جدًا، وتذكرة شبه مستحيلة، يصعب الدخول إليه والاجتماع في حضنه بعائلتي التي تتنوع صفات أفرادها بين نازحين ولاجئين هناك وهنا ومعظمهم يعيشون بلا أوراق ثبوتية حقيقية، فيما أصبحوا في الآونة الأخيرة مهددين بالطرد من البلدان التي يقيمون فيها في أية لحظة!
لكنني وللحق تعرفت إلى فلسطين لأول مرة في الغربة، كوطن على هيئة جرح، لكن كأبهى وطن على وجه الأرض، ولو كان في الصور المتواضعة الجودة والإمكانات، في الأغنيات، والكتب، وحديث والدي وجدتي- رحمهما الله – كان في بيتنا مكتبة كاملة للفلسطينيات وقضايا الأمة: كتب، مجلات، أشرطة الفيديو والكاسيت عن فلسطين والقدس، مهرجانات غنائية، استعراضية، وتمثيلية، ووثائقيات مسجلة عن القضية الفلسطينية وعن القدس والأقصى، وهناك حقيقة رأيت فلسطين لأول مرة، ولعل الغريب في الأمر أن أغلب من قدموا هذه الوثائقيات والفن والوسائط المرئية والمسموعة، لم يكونوا فلسطينيين في الحقيقة، بل من الأردن، مصر، السعودية... وغيرها!
أدير الأمر في عقلي أكثر من مرة ويهزمني التحول الكبير في الأمة العربية التي كانت تحتضن الفلسطيني اللاجئ والنازح ولديها من القيم ما يجعلها ثابتة على جبهة واحدة في وجه الصهاينة، لكنها اليوم أنجبت صفّا مجابهاً يجادل ويناهض ضد الصف الأول، ولا يبدو للعيان إن كان مع الجبهة المقابلة، أم هو طرف مختلف كليًا!
ماذا تعني للعرب فلسطين والأقصى وقضيتهما؟
اليوم حين يقول عربيّ إنه يفدي القدس والمسجد الأقصى وفلسطين، يشعر الفلسطينيون بالامتنان والشكر الجزيل؛ لأنه أصبح يشاركهم جزءًا من همومهم –التي هي هموم الأمة في الأصل– التي هي همومه معهم، التي هي جزء من عقيدته إن كان مسلمًا بالذات.
في زمن غير بعيد كثيرًا، كان أحد الأخوة العرب يقول إن فلسطين والأقصى والقضية الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ منا، ونحن لا نقدّم جميلًا ننتظر الشكر مقابله، إذ نبكي أو نتوقف عن الحياة العشوائية التي نعيشها حين تكون غزة تحت القصف، أو الأقصى تحت التهديد، بل إنها بشكل أو آخر جزء من عقيدتنا، وتكويننا النفسي والقيمي، وقليلًا جداً ما يناقش أحد نفسه في هذا الأمر، وإذا حصل فهو يصل بنفسه إلى نتيجة واحدة في كل الأحوال، وهي: أن مجرد مناقشة هذا الأمر قد تدخله متاهة الشك في مبادئه، انتمائه، وعقيدته!
أين ذهب هذا الأخ العربي، ومتى، بل في أية لحظة تنويم استُبدل العربي المخلصُ بالأخير الذي أصبح يشعر بأن وقفته ليدعو للمسلمين هي تكريم منه لهم، وتفضّلٌ عليهم، حتى إن البعض صار يصرّح بذلك غير مهتم لا بالإنسان، لا بالمبدأ، ولا بالدين حتى!
في أية لحظة تنويم استُبدل العربي المخلصُ بالأخير الذي أصبح يشعر بأن وقفته ليدعو للمسلمين هي تكريم منه لهم، وتفضّلٌ عليهم
التضامن الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي:
الحملات الإلكترونية عبر السوشيال ميديا، ليست حلاً سيئًا في الواقع، ولا مبادرة عابرة تنتهج التصدي بالمتاح واستثمار التكنولوجيا، لكن الكارثة تبدو كبيرة حين تجد كثيرًا من المغردين بوفرة وكثافة في الوسوم المختلفة لا يعرف الكثير عن الأقصى، وقد يشارك من أجل الحضور في وسوم "الترند السوشلجي" اليومي وحسب!
مرض الشهرة الإلكترونية على حساب الأوجاع، طال حتى بعض الفلسطينيين، وصار المشاركون يفتعلون الجدل والتساؤلات بهدف وبغير هدف، طمعاً في مزيد مشاركات، لذلك لا أدري إن كان حقيقيًا جحود البعض وقسوتهم الغريبة تجاه القدس في مشاركاتهم عبر السوشيال ميديا! إلا أن الأمر لا يخلو من خواء فكري وعاطفي ورسالي يستوجب الرثاء!
ضحكت بسخرية قهرتني قبل أن تفاجئني، على تعليق لشاب يقول: إن المسجد الأقصى ليس من الإسلام بشيء، فقد اكتمل الإسلام ومات النبي ﷺ قبل ضمّه لموروثات المسلمين.
تساؤلات الجميع عن إمكانية أن يكون هذا الشاب قد قرأ القرآن، أو سمع بالإسراء والمعراج، أو بحديث النبي ﷺ عن المساجد الثلاث التي لا تشد الرحال إلا إليها، برغم وضوح الإسلام في إشارته للقبلة الأولى، بغضّ النظر فعلاً عن كل ذلك، قرأت قبل شهور أن مؤرخًا يقول بأن القدس ليست أرضًا فلسطينية، مُسلمة! لذلك فأنا اليوم لا أستغرب أن هناك شابّاً يحمل هذه الأفكار، ولا أنتظر منه أن يُعزّ الإسلام الذي لا يعرف عنه شيئًا، فكيف أنتظر من شباب بهذه الثقافة، أن يشاركوا في شرف تحرير الأقصى.
بينما التعليم العربي أصبح يستأصل من المناهج كل ما يمت للقضايا العربية والإسلامية بصلة، ويجرّم كل مقولة أو فكرة تشير إلى أعلام كُتَّاب تلك القضايا ومفكريها، وتسمُ بالتخلف والرجعية كل من يقول ربي الله، ينتشر فيديو يقطر حقداً، من قلب صف في مدرسة صهيونية، تخاطب المعلمة التلاميذ فيها بالعبرية، تؤكد على إيمانهم بالهيكل المزعوم، وترسّخ الحقد على العرب، والعروبة، وحتى على اللغة العربية، وفي آخر المحاضرة صفق المعلّمون للصبيّ اليهوديّ حين أبهرهم: "ستقوم معركة كبرى بيننا وبين العرب، وسيقتلون جميعًا، بينما يصير الباقون منهم عبيدًا لنا" كل ذلك، ومثقفونا ينادون بالتعايش مع الصهيونية "بلزوجة مقرززة"!
ماذا يعرفون عن الأقصى؛ ليحرروه؟
رفعوا شعارات وزعموا بطولات والمرابط وحده احترق ووحده انتصر، مهما كنا شاركنا بالدعاء والتصفيق والتحفيز، لم يوقف الحقد الأسود والهجمة المركبة غير المرابطين المقدسيين، ولا توجد حقيقة أخرى يمكن استيعابها، فهم وحدهم يعرفون الأقصى!
أعود إلى الرسالة التي افتتحت مقالتي بها، وأتجرأ على الجهر بسؤال يطرح نفسه بقوّة: ماذا يعرف العرب عنا، عن فلسطين والقدس؟ إن شرط الإيمان بشيء، هو معرفته التامّة، لكن عشرات الرسائل والحوارات التي تلقيتها عن القدس والأقصى حتى من هؤلاء الذين يشاركون بوفرة في الحملات الإلكترونية، تجعلني أكثر ذهولاً من جهلهم بهما، إن طفلاً فلسطينيًا وقف على حاجزٍ لساعة، أو التقت نظراته بنظرات جندي صهيوني، سينسف مئات العقول العربية إن تحدث عن حقيقة الصراع، ووصف وضع البلاد.
ماذا يعرف العرب عنا، عن فلسطين والقدس؟ إن شرط الإيمان بشيء، هو معرفته التامّة، لكن عشرات الرسائل والحوارات التي تلقيتها عن القدس والأقصى حتى من هؤلاء الذين يشاركون بوفرة في الحملات الإلكترونية، تجعلني أكثر ذهولاً من جهلهم بهما
يظن أغلب العرب أن فلسطين مفتوحة الزوايا والبلدات على بعضها البعض، ولا يعرفون للأسف أن الفلسطيني لا يستطيع زيارة أية بلدة تبعد عنه ولو ثلاثة كيلومترات إلا بتصاريح يهودية، وأختام صهيونية، قد يحصل عليها بشق الأنفس وفي الأغلب لن يحصل عليها!
قبل خمس عشرة عاماً تقريبًا، أقامت مجموعة من المتطوعات حملة للتعريف بالمسجد الأقصى، وتفنيد الصورة الدارجة عن أن قبة الصخرة هي المسجد الأقصى، ونوقش ذلك الأمر كثيرًا، ولعل أهم ما كان يخلص إليه النقاش هو أن حرب اليهود مع المسلمين في هذه الأرض المباركة هو حرب ذاكرة ومعرفة، وأن تجهيل الاجيال بحقيقة الأقصى هو في صالح الصهاينة؛ لأن وجود قبة الصخرة أمام العالم منتصبة، لم يهددها الهدم والحرق، سيعطي للصهاينة المجال والتغطية الكاملة ليهدموا الأقصى الذي لا يعرف عنه أغلب العرب شيئًا!
أكثر قسوة من هذا وذاك، الرسائل الصامتة في عيونهم وتحت سطور التضامن: لكم أقصاكم، ولنا البقية!