في مراحل حياتنا الأولى، وعلى مقاعد الدراسة، كانوا كثيراً ما يقصون علينا القصص، ويضربون لنا الأمثلة؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، وأكثر ما يستحضرني، ويقر في ذاكرتي، قصة المثل القائل: "إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، ودائما أتساءل في نفسي: لماذا لا نأخذ العبرة من هذا المثل في حياتنا! لماذا لم يفكر به من كان يملك القوة والقرار، وقت ما سمح لأولئك الراسمين الحدود بين أوطاننا أن يقسموا بلادنا! ولماذا سمحنا لأنفسنا -على الرغم من ثقافتنا وإسلامنا- بتتبع خطاهم! فكل منا لا ينفك عن تقديس حدود وبقعٍ، كانت في يوم ما بقعة واحدة، بلا حدود ولا ألوان تميّز أو تفرق بين معالمها!
لقد قسموا بلادنا –بداية- على الخريطة؛ ليجعلوا من كل بلد ثوراً أبيض وأحمر، وآخر أسود، وألواناً أخرى كثيرة، والذي يضاعف من ألمك، أن تكون تلك الحدود التي رسموها قد رسموها –بداية- بحبر على ورق، فأصبحت كما النار في الهشيم؛ لتترسخ في جسد الأمة حقيقة واقعة ندركها بل ونشارك في أحداثها.
ورسخوا من هذه المفاهيم ومهدوا لها في عقولنا وقلوبنا منذ أن بدأت مؤسساتنا التربوية، ابتداء من المدرسة بوضع ما يسمى بخارطة الوطن العربي في كل قاعة دراسية، بل إنّ المدرس لا يدخل لحصته الصفية إلا والخارطة ملازمة له ملازمة النَفَس! وكأنها قرآن متلو، أو تاريخ مجد تليد! فزرعوا في قلوبنا، وأرواحنا، وأفكارنا ومنذ الصغر مفهوم التجزئة، ورسخوا في أذهاننا حدود الوطن، ولا يخفى علينا أنّ التعلم في الصغر كالنقش في الحجر، فنشأت أجيالنا مشبعة بمفاهيم الحدود؛ لتصبح هي الأصل، لا حدثاً طارئاً واعوجاجاً لا بد من تقويمه ومقاومته.
نشأت أجيالنا مشبعة بمفاهيم الحدود؛ لتصبح هي الأصل، لا حدثاً طارئاً واعوجاجاً لا بد من تقويمه ومقاومته
إنّ تلك العقلية الآثمة التي دبرت وفكرت، لا أراها إلا مدرسة يتتلمذ فيها الشيطان بنفسه، ويشاركها بالإثم نفسه، تلك اليد التي قَبِلت بتلك الحدود وصادقت عليها، هي نفسها نفس المدرسة واليد التي تعبث اليوم بتاريخنا، وحضارتنا، وثقافتنا، بل ومناهجنا التعليمية في جميع مراحلها تحذف ما تحذف، وتثبت ما يرسخ طرحها من تجزئة، وتفرقة، وتشرذم، ليس فقط بين الأمة الواحدة، بل بين الأشقاء.
إنّ سيرة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- بعموم رسالة السماء، التي حملها للعالم كله، بغض النظر عن حدوده وجنسيات من فيه، وأخص من ذلك سيرته في #الهجرة النبوية- لهي أوضح من الشمس في كبد السماء، توصل لنا رسالة محددة واضحة أنّ الوطن لا يخضع لحدود مرسومة، بل الوطن هو الذي يقبلك بعقيدتك تمارسها بكامل حريتك وإرادتك، وأن متانة العلاقات ورسوخها لهي أشمل من علاقة النسب والدم، فثمة رباط وثيق قد يفوق متانة أخوة النسب، وأنّ رباط العقيدة -الذي يجمع ويوحد شرقنا بغربنا، وشمالنا بجنوبنا؛ ليشمل كل بقعة تحت السماء -لهو أمتن من علاقة مع أناس تجمعنا بهم حدود الوطن الذي رسموه، وفرضوه علينا عنوة لا طواعية.
إن رباط العقيدة -الذي يجمع ويوحد شرقنا بغربنا، وشمالنا بجنوبنا؛ ليشمل كل بقعة تحت السماء -لهو أمتن من علاقة مع أناس تجمعنا بهم حدود الوطن الذي رسموه، وفرضوه علينا عنوة لا طواعية
فتحقق فينا المثل: "إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"؛ أُكلنا بداية عندما قبلنا بهذه الحدود، فتجزأت بلادنا ومقدراتنا، وتفرقنا إلى فرق وشِيع وجماعات متناحرة، ويا ليت الأمر توقف عند هذا، بل تعدى الأمر ذلك ليشمل المسجد، والحارة، والمقهى، والأسرة، بل والمقبرة.
تسقط الدولة تلو الأخرى، وتنهب خيراتها، وتستباح حرمة شعبها على مرأى من العالم ومسمع، والكل يظن بأنه في مأمن، مساكين لا بل حمقى؛ لأنهم أضاعوا العبرة من أكل الثور الأبيض، وجهلوا أنّ لكلٍ دوره الذي ينتظره، أليس الواقع يبرهن على ذلك!
أليست هذه المفاهيم، وتلك الحدود التي رسخوها في أفكارنا؛ سبباً من الأسباب في التقاعس عن نصرة فلسطين! ألم تغتصب فلسطين، وتدنس مقدساتها، وتسفك دماء شعبها، وتستباح حرمة القِبلة الأولى! وبلاد العُرب تتابع الأحداث من برجها العاجي، بل وتصبح بلاد العُرب أوطاني، والتي طالما شدَوْناها؛ لتصبح بلاد العُرب أكفاناً لكل من سولت نفسه أن يغضب للمقدسات التي انتهكت، وانظر ماذا بعد فلسطين؟ العراق واليمن وسوريا ومصر! فالعد قائم، والأمر ماضٍ في كل بلاد العُرب بلا استثناء، وخريطة العرب تلونت حدودها ومعالمها وتضاريسها بالدماء، وأصبحت كالعقد إذا انفرط تتابعت حباته بالسقوط واحدة تلو الأخرى!
أما آن لنا أن نعيد قراءة المثل بقلب متدبر، وعقل متفكر، أما آن لنا أن ندرك ونعي بأن حضناً واحداً يؤوينا، وغطاءً واحداً لا غير يدثرنا، أما آن الوقت أن نعتصم جميعاً بحبل الله فلا نتفرق! وأن الأرض ملك لله يورثها لمن شاء من عباده الصالحين، لا حق لأي كان بتقسيمها وشرذمتها بقع متناحرة، على حدود واهية، مفتعلة مغتصبة!